للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حجج هذا القول. ومن الناس من يقول لا بأس بذلك؛ لأننا إذا طبقنا هذه المسألة على الأصل العظيم للمحيط الشرعي صارت من أوائل ما يدخل فيه، وأن ذلك مباح بل ربما يكون مستحبا، وذلك أن الأصل إذا تعارضت المصالح والمفاسد والمنافع والمضار، فإن رجحت المفاسد أو تكافأت منع منه وصار درء المفاسد في هذه الحال أولى من جلب المنافع، وإن رجحت المصالح والمنافع على المفاسد والمضار اتبعت المصالح الراجحة، وهذه المذكورات مصالحها عظيمة معروفة ومضارها إذا قدرت فهي جزئية يسيرة منغمرة في المصالح المتنوعة، ويؤيد هذا أن حجة القول الأول وهي أن الأصل أن بدن الإنسان محترم لا يباح بالإباحة متى اعتبرنا فيه هذا الأصل، فإنه يباح كثير من ذلك للمصلحة الكثيرة المنغمرة في المفسدة بفقد ذلك العضو أو التمثيل به.

فإنه يباح لمن وقعت فيه الأكلة التي يخشى أن ترعى بقية بدنه، قطع العضو المتآكل لسلامة الباقي، وكذلك يجوز قطع الضلع التي لا خطر في قطعها، ويجوز التمثيل في البدن بشق البطن أو غيره للتمكن من علاج المرض ويجوز قلع الضرس ونحوه عند التألم الكثير وأمور كثيرة من هذا النوع أبيحت لما يترتب عليها من حصول مصلحة أو دفع مضرة.

وأيضا فإن كثيرا من هذه الأمور المسئول عنها يترتب عليها المصالح من دون ضرر يحدث فما كان كذلك فإن الشارع لا يحرمه، وقد نبه الله تعالى على هذا الأصل في عدة مواضع من كتابه ومنه قوله عن الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (١) فمفهوم الآية أن ما كانت منافعه ومصالحه أكثر من مفاسده وإثمه فإن الله لا يحرمه، ولا يمنعه، وأيضا فإن مهرة الأطباء المعتبرين متى قرروا تقريرا متفقا عليه أنه لا ضرر على المأخوذ من جسده ذلك الجزء وعرفنا ما يحصل من ذلك من مصلحة الغير، كانت مصلحة محضة خالية من المفسدة، وإن كان كثير من أهل العلم يجوزون بل يستحسنون إيثار الإنسان غيره على نفسه بطعام أو شراب هو أحق به منه، ولو تضمن ذلك تلفه أو مرضه ونحو ذلك، فكيف بالإيثار بجزء من بدنه لنفع أخيه النفع العظيم من غير خطر تلف بل ولا مرض وربما كان في ذلك نفع له إذا كان المؤثر قريبا أو صديقا خاصا أو صاحب حق كبير أو أخذ عليه نفع دنيوي ينفعه أو ينفع من بعده.

ويؤيد هذا أن كثيرا من الفتاوى تتغير بتغير الأزمان والأحوال والتطورات وخصوصا الأمور التي ترجع إلى المنافع والمضار ومن المعلوم أن ترقي الطب الحديث له أثره الأكبر في هذه الأمور كما هو معلوم مشاهد، والشارع أخبر بأنه ما من داء إلا وله شفاء، وأمر بالتداوي خصوصا وعموما، فإذا تعين الدواء وحصول المنفعة بأخذ جزء من هذا ووضعه في الآخر من غير ضرر يلحق المأخوذ منه فهو داخل فيما أباحه الشارع، وإن كان قبل ذلك وقبل ارتقاء الطب فيه ضرر أو خطر، فيراعى كل وقت بحسبه، ولهذا نجيب عن كلام أهل العلم القائلين بأن الأصل في أجزاء الآدمي تحريم أخذها وتحريم التمثيل بها، فيقال: هذا يوم كان ذلك خطرا أو ضررا أو ربما أدى إلى الهلاك، وذلك أيضا في الحالة التي ينتهك فيها بدن الآدمي وتنتهك حرمته.


(١) سورة البقرة الآية ٢١٩