للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأما في هذا الوقت فالأمران مفقودان، الضرر مفقود وانتهاك الحرمة مفقودة، فإن الإنسان قد رضي كل الرضا بذلك واختاره مطمئنا مختارا لا ضرر عليه ولا يسقط شيء من حرمته، والشارع إنما أمر باحترام الآدمي تشريفا له وتكريما، والحالة الحاضرة غير الحالة الغابرة، ونحن إنما أجزنا ذلك إذا كان المتولي طبيبا ماهرا، وقد وجدت تجارب عديدة للنفع وعدم الضرر، فبهذا يزول المحذور.

ومما يؤيد ذلك ما قاله غير واحد من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أنه إذا أشكل عليك شيء هل هو حلال أو حرام، أو مأمور به أو منهي عنه؛ فانظر إلى أسبابه الموجبة وآثاره ونتائجه الحاصلة، فإذا كانت منافع ومصالح وخيرات وثمراتها طيبة، كان من قسم المباح أو المأمور به، وإذا كان بالعكس، كانت بعكس ذلك، طبق هذه المسألة على هذا الأصل، وانظر أسبابها وثمراتها تجدها أسبابا لا محذور فيها، وثمراتها خير الثمرات، وإذا قال الأولون: أما ثمراتها فنحن نوافق عليها ولا يمكننا إلا الاعتراف بها، ولكن الأسباب محرمة كما ذكرنا في أن الأصل في أجزاء الآدمي التحريم، وأن استعمال الدم استعمال للدواء الخبيث، فقد أجبنا عن ذلك بأن العلة في تحريم الأجزاء إقامة حرمة الآدمي ودفع الانتهاك الفظيع، وهذا مفقود هنا، وأما الدم فليس عنه جواب إلا أن نقول: إن مفسدته تنغمر في مصالحه الكثيرة وأيضا ربما ندعي أن هذا الدم الذي ينقل من بدن إلى آخر، ليس من جنس الدم الخارج الخبيث المطلوب اجتنابه والبعد عنه وإنما هذا الدم هو روح الإنسان وقوته وغذائه فهو بمنزلة الأجزاء أو دونها، ولم يخرجه الإنسان رغبة عنه وإنما هو إيثار لغيره، وبذل من قوته لقوة غيره وبهذا يخف خبثه في ذاته وتلطفه في آثاره الحميدة، ولهذا حرم الله الدم المسفوح وجعله خبيثا، فيدل على أن الدماء في اللحم والعروق وفي معدتها قبل بروزها ليست محكوما عليها بالتحريم والخبث، فقال الأولون: هذا من الدم المسفوح فإنه لا فرق بين استخراجه بسكين أو إبرة أو غيرها، أو ينجرح الجسد من نفسه فيخرج الدم فكل ذلك دم مسفوح محرم خبيث، فكيف تجيزونه؟ ولا فرق بين سفحه لقتل الإنسان أو الحيوان أو سفحه لأكل أو سفحه للتداوي به، فمن فرق بين هذه الأمور فعليه الدليل.

فقال هؤلاء المجيزون: هب أنا عجزنا عن الجواب عن حل الدم المذكور فقد ذكرنا لكم عن أصول الشريعة ومصالحها ما يدل على إباحة أخذ جزء من أجزاء الإنسان لإصلاح غيره إذا لم يكن فيه ضرر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (١)»، «ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد (٢)» فعموم هذا يدل على هذه المسألة وأن ذلك جائز، فإذا قلتم: إن هذا في التواد والتراحم والتعاطف كما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- لا في وصل أعضائه بأعضائه، قلنا: إذا لم يكن ضرر ولأخيه فيه نفع فما الذي يخرجه من هذا؟ وهل هذا إلا فرد من أفراده؟ كما أنه داخل في الإيثار، وإذا كان من أعظم خصال العبد الحميدة مدافعته عن نفس أخيه وماله ولو حصل عليه ضرر في بدنه أو ماله فهذه المسألة من باب أولى وأحرى، وكذلك من فضائله تحصيل مصالح أخيه، وإن طالت المشقة وعظمت الشقة فهذه كذلك وأولى.


(١) صحيح البخاري الصلاة (٤٨١)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (٢٥٨٥)، سنن الترمذي البر والصلة (١٩٢٨)، سنن النسائي الزكاة (٢٥٦٠)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ٤٠٥).
(٢) صحيح البخاري الأدب (٦٠١١)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (٢٥٨٦)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ٢٧٠).