للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ونهاية الأمر أن هذا الضرر غير موجود في هذا الزمن، فحيث انتقلت الحال إلى ضدها وزال الضرر والخطر فلم لا يجوز ويختلف الحكم فيه لاختلاف العلة، ويلاحظ أيضا في هذه الأوقات التسهيل ومجاراة الأحوال إذا لم تخالف نصا شرعيا؛ لأن أكثر الناس لا يستفتون ولا يبالون وكثير ممن يستفتي إذا أفتي بخلاف رغبته وهواه تركه ولم يلتزمه، فالتسهيل عند تكافؤ الأقوال يخفف الشر ويوجب أن يتماسك الناس بعض التماسك لضعف الإيمان وعدم الرغبة في الخير، كما يلاحظ أيضا أن العرف عند الناس أن الدين الإسلامي لا يقف حاجزا دون المصالح الخالصة أو الراجحة بل يجاري الأحوال والأزمان ويتتبع المنافع والمصالح الكلية والجزئية، فإن الملحدين يموهون على الجهال أن الدين الإسلامي لا يصلح لمجاراة الأحوال والتطورات الحديثة، وهم في ذلك مفترون، فإن الدين الإسلامي به الصلاح المطلق من كل وجه، الكلي والجزئي، وهو حلال لكل مشكلة خاصة أو عامة وغير قاصر من جميع الوجوه.

رابعا: المقارنة بين المصالح التي بني عليها تشريح جثث الآدمي والمصالح التي بنى عليها فقهاء الإسلام الاستثناء من قاعدة عصمة دماء بني آدم ووجوب تكريمهم ورعاية حرمتهم.

إن شريعة الإسلام تنزيل من حكيم حميد، عليم بما كان وما سيكون، أنزلها على خير الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين، وجعلها قواعد كلية ومقاصد سامية شاملة، فكانت تشريعا عاما خالدا صالحا لجميع طبقات الخلق في كل زمان ومكان.

إن كثيرا من الجزئيات والوقائع التي حدثت لا نجدها منصوصا عليها نفسها في الكتاب أو السنة، وربما لم تكن وقعت من قبل فلا يعرف لسلفنا الصالح فيها حكم، لكن يتبين لبحث علماء الإسلام عنها أنها مندرجة في قاعدة شرعية عامة، ومن ثم يعرف حكمها، ومسألة تشريح جثث موتى بني آدم لا تعدو أن تكون جزئية من هذه الجزئيات التي لم ينص عليها في نص خاص فشأنها شأن الوقائع التي جدت، لا بد أن تكون مشمولة بقاعدة كلية من قواعد الشريعة، وراجعة لمقصد عام من مقاصدها العالية، ضرورة كمال الشريعة وشمولها، وصلاحيتها لجميع الخلق، وختمها بمن أرسل رحمة للعالمين، قال تعالى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (١)، وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (٢)، وقال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (٣) وثبت في الحديث «لا أحد أحب إليه العذر من الله (٤)» من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وبالبحث عن مسألة التشريح تبين أنها مندرجة تحت قواعد الشريعة العامة وراجعة إلى المصالح المعتبرة شرعا وأن لها نظائر من المسائل التي حكم فيها الفقهاء مع اختلاف نظرهم واجتهادهم فيها، وهذا مما ينير الطريق، ويهدي الباحث في مسألة التشريح ويساعد علة الوصول إلى ما قد يكون صوابا إن شاء الله.


(١) سورة مريم الآية ٦٤
(٢) سورة النساء الآية ١٦٥
(٣) سورة المائدة الآية ٣
(٤) صحيح البخاري التوحيد (٧٤١٦)، صحيح مسلم اللعان (١٤٩٩)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ٢٤٨)، سنن الدارمي النكاح (٢٢٢٧).