للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الوجه الثاني: أن الحديث مضطرب لاختلاف العبارات وقد وقع هذا في كثير من روايات الحديث لمن تأملها.

ويمكن أن يجاب عنها بأن الرواية بالمعنى جائزة وما دام أن اختلاف الألفاظ لا يترتب عليه اختلاف تضاد في الحكم فلا أثر له.

الوجه الثالث: أن الحديث مضطرب لوجود الاختلاف في دفع الدية ففي رواية البخاري «فوداه مائة من إبل الصدقة (١)»، وفي رواية مسلم: «فوداه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عنده (٢)»، وفي رواية النسائي: «فقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ديته عليهم وأعانهم بنصفها (٣)».

ويجاب عن هذا أولا بما قاله ابن حجر: قوله من إبل الصدقة، زعم بعضهم أنه غلط من سعيد بن عبيد لتصريح يحيى بن سعيد بقوله (من عنده) وجمع بعضهم بين الروايتين باحتمال أن يكون اشتراها من إبل الصدقة بمال دفعه من عنده أو المراد بقوله: من عنده أي بيت المال المرصد للمصالح وأطلق عليه صدقة باعتبار الانتفاع به مجانا لما في ذلك من قطع المنازعة وإصلاح ذات البين، وقد حمله بعضهم على ظاهره فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة واستدل بهذا الحديث وغيره.

قلت: وتقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة في الكلام على حديث أبي لاس قال: «حملنا النبي -صلى الله عليه وسلم- على إبل من إبل الصدقة في الحج (٤)». وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت أمره وحكمه وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم. قال القرطبي في المفهم: فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبا للمصلحة ودرءا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق.

ورواية من قال: " من عنده " أصح من رواية من قال: " من إبل الصدقة " وقد قيل إنها غلط والأولى أن لا يغلط الراوي ما أمكن فيحتمل أوجها منها. فذكر ما تقدم وزاد أن يكون تسلف ذلك من إبل الصدقة ليدفعه من مال الفيء، أو أن أولياء القتيل كانوا مستحقين للصدقة فأعطاهم، أو أعطاهم ذلك من سهم المؤلفة استئلافا لهم واستجلابا لليهود. انتهى (٥).

ويجاب ثانيا عن رواية النسائي بأمرين: أحدهما من جهة السند، والثاني من جهة الدلالة.

أما من جهة السند: فإن النسائي -رحمه الله تعالى- ذكر هذه الترجمة " ذكر اختلاف الناقلين لخبر سهل فيه " وساق عدة روايات وقال بعد ذلك: " خالفهم عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - وذكر الحديث وقال في آخره: «فقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ديته عليهم وأعانهم بنصفها (٦)».

وقال ابن القيم: قال النسائي: لا نعلم أحدا تابع عمرو بن شعيب على هذه الرواية.


(١) صحيح البخاري الديات (٦٨٩٨)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (١٦٦٩)، سنن الترمذي الديات (١٤٢٢)، سنن النسائي القسامة (٤٧١٥)، سنن أبو داود الديات (٤٥٢٣)، سنن ابن ماجه الديات (٢٦٧٧).
(٢) صحيح البخاري الأحكام (٧١٩٢)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (١٦٦٩)، سنن الترمذي الديات (١٤٢٢)، سنن النسائي القسامة (٤٧١٥)، سنن أبو داود الديات (٤٥٢١)، سنن ابن ماجه الديات (٢٦٧٧).
(٣) سنن النسائي القسامة (٤٧٢٠)، سنن ابن ماجه الديات (٢٦٧٨).
(٤) مسند أحمد بن حنبل (٤/ ٢٢١).
(٥) فتح الباري ج١٢ ص٢٣٥.
(٦) سنن النسائي ج٨ ص١٢