للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أنها ليست بحكم شرعي بهذا التدريج المنادي بعدم ثبوتها شرعا، وأقرهم -صلى الله عليه وسلم- أنهم لا يحلفون على ما لا يعلمونه ولا شاهدوه ولا حضروه ولم يبين لهم بحرف واحد أن أيمان القسامة من شأنها أن تكون على ما لا يعلم. انتهى المقصود (١).

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: الرسول -صلى الله عليه وسلم- عرض على الأنصار أن يحلفوا خمسين يمينا فامتنعوا ثم بين لهم أن لهم على اليهود خمسين يمينا يحلفها خمسون منهم فبينوا للرسول -صلى الله عليه وسلم- أنهم لا يقبلون أيمانهم وهذا يدل على مشروعيتها إذ لا يصلح أن يحمل هذا التصرف منه -صلى الله عليه وسلم- على العبث والألغاز التي لا يرشد إليها الكلام، وإنما يحمل عليها الكلام بمجرد الظنون والأوهام.

الأمر الثاني: أن هذا الدليل مضطرب، والاضطراب علة مانعة عن العمل به فيكون مردودا، ويمكن أن نبين وجوه الاضطراب والجواب عن كل وجه بعده:

الوجه الأول: الاضطراب بالزيادة والنقص وفي البدء بتوجيه الأيمان فإن هذا الحديث ليس فيه طلب البينة أولا من المدعين كما أنه يدل على البدء بتوجيه الأيمان إلى المدعين وقد جاء ما يخالف ذلك فروى البخاري في الصحيح بسنده المتصل إلى «بشير بن يسار زعم أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة " وذكر الحديث وفيه " فقال لهم " تأتون بالبينة على من قتله " قالوا ما لنا بينة، قال " فيحلفون "، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود - الحديث (٢)».

" وقد أجاب ابن حجر عن ذلك بقوله: وطريق الجمع أن يقال: حفظ أحدهم ما لم يحفظ الآخر فيحمل على أنه طلب البينة أولا فلم تكن لهم بينة، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم فأبوا.

وأما قول بعضهم: إن ذكر البينة وهم لأنه -صلى الله عليه وسلم- قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من المسلمين فدعوى نفي العلم مردودة فإنه وإن سلم أنه لم يسكن مع اليهود فيها أحد من المسلمين لكن في نفس القصة أن جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون تمرا فيجوز أن تكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك وإن لم يكن في نفس الأمر كذلك، وقد وجدنا لطلب البينة في هذه القصة من وجه آخر، أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن ابن محيصة الأصفر أصبح قتيلا على أبواب خيبر فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليك برمته قال: يا رسول الله أنى أصيب شاهدين وإنما أصبح قتيلا على أبوابهم. . . الحديث (٣)». وهذا السند صحيح حسن وهو نص في الحمل الذي ذكرته فتعين المصير إليه. وقد أخرج أبو داود أيضا من طريق عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج قال: «" أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولا فانطلق أولياؤه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم" (٤)» قال: لم يكن ثم أحد من المسلمين وإنما هم اليهود وقد يجترئون على أعظم من هذا (٥).


(١) سبل السلام ج٣ ص٢٥٧.
(٢) صحيح البخاري الديات (٦٨٩٨)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (١٦٦٩)، سنن الترمذي الديات (١٤٢٢)، سنن النسائي القسامة (٤٧١٥)، سنن أبو داود الديات (٤٥٢٣)، سنن ابن ماجه الديات (٢٦٧٧).
(٣) سنن النسائي القسامة (٤٧٢٠)، سنن ابن ماجه الديات (٢٦٧٨).
(٤) سنن أبو داود الديات (٤٥٢٤).
(٥) فتح الباري ج١٢ ص٢٣٤.