للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال ابن قدامة: اختلفت الرواية عن أحمد، فيمن تجب عليه أيمان القسامة؛ فروي أنه يحلف من العصبة الوارث منهم وغير الوارث، خمسون رجلا، كل واحد منهم يمينا واحدة. وهذا قول لمالك، فعلى هذا، يحلف الوارث منهم الذين يستحقون دمه، فإن لم يبلغوا خمسين، تمموا من سائر العصبة، يؤخذ الأقرب منهم فالأقرب من قبيلته التي ينتسب إليها، ويعرف كيفية نسبه من المقتول.

فأما من عرف أنه من القبيلة، ولم يعرف وجه النسب، لم يقسم؛ مثل أن يكون الرجل قرشيا والمقتول قرشيا، ولا يعرف كيفية نسبه منه، فلا يقسم؛ لأننا نعلم أن الناس كلهم من آدم ونوح، وكلهم يرجعون إلى أب واحد، ولو قتل من لا يعرف نسبه، لم يقسم عنه سائر الناس، فإن لم يوجد من نسبه خمسون، ردت الأيمان عليهم، وقسمت بينهم، فإن انكسرت عليهم جبر كسرها عليهم حتى تبلغ خمسين (١).

جاء في حاشية المقنع: قوله: "وعنه يحلف من العصبة. . . إلخ" هذا قول لمالك، ونصره جماعة من الأصحاب منهم الشريف وأبو الخطاب والشيرازي وابن البناء (٢).

من يحلف من المدعى عليهم، إذا لم يحلف المدعون حلف من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يمينا، هذا في المذاهب الثلاثة، ويوافقهم المذهب الحنفي في أنه يحلف خمسون رجلا خمسين يمينا، وهذا إذا أمكن عند الجميع، وإذا لم يمكن فسيأتي بيانه في رد الأيمان، وقد بسط الكاساني -رحمه الله- الكلام على تحليف المدعى عليهم مع بيان خلاف أئمة المذهب الحنفي وفي مقدمتهم أبو حنيفة -رحمه الله- فذكرنا كلامه مفصلا.

قال الكاساني: وأما بيان سبب وجوب القسامة والدية فنقول: سبب وجوبهما هو التقصير في النصرة وحفظ الموضع الذي وجد فيه القتيل ممن وجب عليه النصرة والحفظ؛ لأنه إذا وجب عليه الحفظ فلم يحفظ مع القدرة على الحفظ صار مقصرا بترك الحفظ الواجب فيؤاخذ بالتقصير زجرا عن ذلك وحملا على تحصيل الواجب، وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان أولى بتحمل القسامة والدية.

لأنه أولى بالحفظ فكان التقصير منه أبلغ.

ولأنه إذا اختص بالموضع ملكا أو يدا بالتصرف كانت منفعته له، فكانت النصرة عليه؛ إذ الخراج بالضمان على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وقال تبارك وتعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (٣).

ولأن القتيل إذا وجد في موضع اختص به واحد أو جماعة إما بالملك أو باليد، وهو التصرف فيه، فيتهمون


(١) المغني ج٨ ص٥٠١.
(٢) حاشية المقنع ج٣ ص٤٤٠.
(٣) سورة البقرة الآية ٢٨٦