للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإذا أضفنا - أيضا - إلى ذلك، ما نشاهده في واقع الأمة الإسلامية، من كثرة الجهل بأحكام الدين في كثير من أفرادها، وكثرة المشاغل التي تنتاب الفئة المتخصصة في أحكام الشريعة الإسلامية مما قد يحول بينهم وبين الوصول إلى درجة الاجتهاد المطلق في أحكام شريعتها، إذا أضفنا ذلك كله إلى ما تقدم، تبين لنا أنه لا يشترط لمن يتبوأ هذا المنصب أن تتوفر فيه صفة الاجتهاد المطلق.

ولعل من نافلة القول أنه جاز لمن هذه صفته أن يتصدى للفتيا، فإنه يجوز بالأولى لمن كان مجتهدا مطلقا، أو مجتهدا مقيدا في مذهب من ائتم به " بأن يعرف قواعده، وتفصيل مذهبه، ويقوى على استخراج الأحكام فيما لم ينص عليه إمامه، مراعيا قواعد إمامه، وعلى ترجيح قول على آخر داخل المذهب، حينما يجهل المتقدم منها من المتأخر " (١).

ولهذا نرى الإمام " ابن القيم " (المتوفى سنة ٧٥١ هـ رحمه الله) (٢) حين تحدث عمن يجوز لهم أن ينتصبوا للفتيا، ويجوز للعامة أن يتجهوا إليهم بالأسئلة عن أحكام دينهم - يقسمهم إلى أربعة أقسام:

أحدهم: العالم بكتاب الله، وسنة رسوله، وأقوال الصحابة، فهو المجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهاده تقليده لغيره أحيانا. فلا تجد أحدا من الأئمة إلا هو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام. . .

النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه، من غير أن يكون مقلدا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه، ورتبه، وقرره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معا. . .

النوع الثالث: من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه، مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها، لكن لا يتعدى أقواله وفتاويه، ولا يخالفها إذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره ألبتة. . .

النوع الرابع: طائفة تفقهت في مذهب من انتسبت إليه، وحفظت فتاويه وفروعه، وأقرت على أنفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه، فإن ذكروا الكتاب والسنة يوما في مسألة، فعلى وجه التبرك والفضيلة، لا على وجه الاحتجاج والعمل، وإذا رأوا حديثا صحيحا مخالفا لقول من انتسبوا إليه، أخذوا بقوله،


(١) شيخنا الشيخ (عبد الرزاق عفيفي)، من أماليه، كان يقرر لنا هذه القضية
(٢) أعلام الموقعين، ت محي الدين عبد الحميد، مصر مطبعة السعادة ط أولى ١٣٧٤هـ ٤/ ٢١٢ - ٢١٤ -