أخرى حتى يصير بدرا، ثم يتناقص شيئا فشيئا حتى يعود كالعرجون القديم كما بدأ، وهكذا كل شهر بطريقة لا خلل فيها ولا اضطراب مما يحير العقول والألباب.
* * *
ولهذه الكواكب إلى جانب ذلك وظائف في الكون، عرف بعضها العلماء المفكرون، وجهل ما لا يحصى منها الباحثون المحققون.
* ويرى من تحته سهولا جرداء، إذا وضع فيها الحب وأصابها الماء، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج طعاما للآكلين، وفاكهة للمتفكهين، وزينة لأهل الأذواق الرفيعة، وراحة للنفوس المكدودة.
ويرى من حوله جبالا شامخة أرسيت بها الأرض حتى لا تميد بالناس واتخذت منها القصور والحصون، ورصفت بها الطرق، ولها منافع وراء ذلك تفوت الحصر.
* ويرى اليابس من الأرض ينتهي إلى بحار بعيدة المدى، رهيبة جليلة المنظر، تموج فيها أمواج تلو أمواج ما بين رقيقة هينة، وعاتية عنيفة، وعلى ضفافها نسيم عليل، وهواء بليل، يلطف حرارة الجو، ويريح النفوس المكدودة، وينظم الأنفاس المضطربة، وتجري فيها عجائب الأسماك جماعات وأفرادا ما بين صغار وكبار، وهادئة ومفترسة، لها ألوان مختلفات تسر الناظرين وتبهج المتأملين، وهذه وتلك كل يسعى إلى رزقه بغرائز مودعة في أعصابها تجذبها إلى مراع بعيدة المدى، لم يسبق لها رؤيتها، ولم تسع من قبل إليها، تحيا إن بقيت في الماء، وتموت إن خرجت إلى الفضاء، بعكس سائر الحيوان، إذ يحيا باستنشاق الهواء، ويموت إذا غمر في الماء، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (١)
* ويرى الحر حين يحمى عليه وطيسه، ويشتد أواره، ويجعله يتصبب عرقا، ويجتهد نصبا، فإذا رحمة حانية، تأتيه من الغيب، فتبعث إليه نسيما عليلا، وهواء لطيفا، يجفف عرقه، ويريح أنفاسه.
* * *
يرى هذا وغير هذا من العجائب المتقنة ذات الجلال الرائع، فيقول لنفسه: من الذي أوجد هذا الكون وأبدعه، وجعل أجزاءه مترابطة، ومصالحه متعاونة متماسكة، وأحاط بكل شيء علما، وأحكمه تدبيرا، لا يغفل عن شيء ولا ينام، ولا تفوته ذرة في هذا الملكوت؟ فكل ما فيه تحت رعايته ورحمته، مشمول برعايته وعظيم تدبيره.
(١) سورة المؤمنون الآية ١٤