ثم تقول له نفسه: لماذا لا يكون هذا الكون قد وجد بنفسه بلا موجود يوجده، ومدبر يدبره، ولا يلبث أن يجد صوتا من الأعماق قد يناديه: أخطأت التقدير، وجاوزت المعقول، أليست هذه صنعة، وكل صنعة لا بد لها من صانع؟ أليست شيئا حادثا، وكل حادث لا بد له من محدث؟ فكيف يحدث الشيء نفسه؟ هل رأيت قصرا أو حصنا أو مصنعا أو أداة صنعت نفسها؟ فإذا قلت: كلا، فالجواب: إن هذا الكون لم يصنع نفسه، بل صنعه وأوجده موجود عظيم.
* ثم يكرر هذا الصوت نداءه من الأعماق، ويزيد في إرشاده إلى الحق فيقول: إن الوجود والعدم أمران متساويان، فلا يمكن أن يرجح الوجود على العدم بدون مرجح، فهل رأيت كفتي ميزان رجحت إحداهما على الأخرى بدون ما يرجحها ويثقلها، فإذا قلت: كلا، فالجواب: أن هذا الكون لا يمكن أن يترجح وجوده على عدمه السابق، إلا بموجد اختار إحداثه على إبقائه في حالة العدم.
وإذا قلت لك: إن الوجود والعدم أمران متساويان، فذلك من باب التساهل معك، وإلا فالحقيقة أن العدم أرجح من الوجود لسبقه إياه، فترجيح الوجود عليه لا يكون إلا بقدرة قادر، ومشيئة حكيم.
وإذا كانت منزلة الصانع من العلم والحكمة على مقدار صنعته، فصانع هذا الكون ومبدعه لا بد أن قدرته وعلمه وتدبيره لا غاية لعظمتها، وأنه على كل شيء قدير.
* فماذا رأيت أيها المتأمل بعد هذا العلم؟ ستقول إن كنت من المؤمنين: لقد ازددت به إيمانا على إيمان، وستقول إن كنت مرتابا: لقد كشف عن نفسي غطاؤها، وأصبحت موقنا بخالق هذا الكون، وأما إن كنت سادرا في غيك، متأثرا بإضلال غيرك، فلم ترفع لذلك رأسا، ولم تحرك لتلك الآيات فكرا، ولم تتأثر بها سمعا ولا قلبا ولا بصرا، فإننا نقول لك:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(١).