وقد ذكرتني البداية العلمية لحافظ - رحمه الله- بما شاهدته في إحدى أسفاري إلى موريتانيا، فقد كنا نسمع عن حفظ أبناء تلك الديار النادر، وقدرتهم العجيبة على النظم في أي موضوع يريدون ترسيخه في الأذهان، وعن علمهم وذكائهم الفطري، مع أنهم عرب رحل، ينتجعون الكلأ خلف مواشيهم، فكان كل مهتم يتمنى أن يقف على مدارسهم، ويستمع إلى علمائهم، ويعرف طريقتهم في التلقين، ويطلع على مكتباتهم التي أنجبت أولئك العلماء، ويقف على منهجهم في التربية والتوجيه، حيث إن من يلتقي بالعالم منهم يتعجب من سعة علمه، وقدرته على الحفظ، واتساع مداركه الأدبية، مع استيعابه العلوم العديدة، وخاصة العربية منها، وبعد إتاحة رحلة خاصة إلى قرى عديدة هناك، هي مواطن البادية، ومراتع إبلهم وأغنامهم، حيث كانت أم القرى التي تبعد عن نواكشوط العاصمة ٩٠ كم تقريبا هي النموذج، إذ هي مورد ماء لا مدر فيه، بل تقام الخيام مع غروب الشمس، حيث لا تهنأ الزيارة، إلا بعد أن يضرب الليل بغلالته، فإذا بهم لا يحلو سمرهم، إلا على لظى الجمر، ودخان الرمث والغضا، حيث كان سمرا علميا، جادا في استذكار ما حفظوه في المرعى، وفي عرض ما نظموه في العلوم التي لقنها لهم شيخهم، حيث ينتقل أثناء النهار، بين الرعاة، حاملا كتبه وألواح الكتابة في مؤخرة رحله، فهي حياة جادة، ورغبة علمية عارمة، وقفت عليها عن كثب، لا يصرف عنها رعي، ولا يحول دونها ملاحقة الغنم،