للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحقيقة الرابعة: أن ذكرت الشروط التي ينبغي أن تتوفر فيمن اصطلحنا سابقا على تسميته بالمفتي الذي تؤخذ الفتوى عنه، وإن كان غيره ممن هو أعلى مرتبة في العلم، وأرسخ قدما في الفهم والاستنباط، تؤخذ عنه من باب أولى؛ فكانت على النحو التالي:

الإسلام والتكليف، والعلم، والعدالة، وحسن الطريقة ورضا السيرة، والورع والعفة والحرص على استطابة المأكل، ورصانة الفكر وجودة الملاحظة، والتأني في الفتوى والتثبت فيما يفتى به، وطلب المشورة، ورؤية المفتي لنفسه بأنه أهل لهذا المنصب، وشهادة الناس له بذلك.

وقد ذكرت بعد كل شرط ما يدل على اشتراطه، فبان بذلك تحتم وجودها فيمن نصب نفسه للإفتاء " وتحتم امتناع من لم تتوفر فيه عن ذلك.

الحقيقة الخامسة: أن سجلت في هذا البحث أهم الأمور التي ينبغي لمن تصدى للفتيا بأن يتحلى بها، ويأخذ نفسه بها، فاجتمع لنا منها ما يأتي:

جمال المظهر وحسن الزي على الطريقة التي تتناسب مع الوضع الشرعي، والبداءة بالنفس في كل خير يفتى به، ومعرفة أحوال الناس والتفطن لتصرفاتهم، والكف عن النظر في الفتوى حينما يكون مع المستفتي فتوى قد كتبها من لا يصلح لذلك، وعدم الكتابة مع المستفتي حينما تكون حاله مثل ذلك، والنظر في سؤال السائل من حيث مطابقته لمستوى السائل وعدم مطابقته لذلك، وإعطاء كل حالة حكمها المناسب لها؛ من حيث إفتاؤه وعدم إفتائه، والشعور بالافتقار إلى الله (سبحانه) في إلهام الصواب، والدعاء بما يتناسب مع هذا المقام، ومراعاة العرف والعادة في الفتوى حيث تختلف بلدان المستفتين، وعرض الخلاف حين يتعارض العرف مع المدلول اللغوي للفظ الصريح، والتريث في الفتوى حين يشتمل اللفظ على بعض الملابسات التي تجعل المفتي يغلب على ظنه أن صيغة السؤال لا تعبر عن حقيقة الواقع تماما، والنصح والشفقة على المستفتي؛ إما بتوجيهه للطرق المباحة حين يستفتي عن أمر محرم، فيمنعه المفتي منه، وإما غير ذلك مما يدخل في معنى النصح والشفقة، ومراعاة الحكم الشرعي الذي يتفق مع مقاصد الشريعة، وهو ما كان جاريا على المعهود الوسط بين الشدة والخفة، وحسن النية، وسلامة القصد من المفتي، والاحتراز وأخذ الحيطة في الفتوى - وقد ذكرت لذلك صورا كثيرة متنوعة بجمعها هذا المعنى - وختمت هذه الأمور بأمر يتصل بالتواضع المشروع في الإسلام، وهو تأدب المفتي في صورة وضع الفتيا حين يكون قد أفتى في القضية غيره ممن هو أعلى منه منزلة في العلم.

وقد سلكت في بحث هذه الأمور ذكر الأدلة الشرعية لها، وعرض الخلاف حيث يوجد فيها، وتفصيل الحالات المحتملة حيث يوجد الاحتمال، وإيراد الحكم لكل حالة مقرونا بدليله.