للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تلك: هي مكانة المفتي في الإسلام، وهذه هي الحقائق التي ينبغي لمن تصدى للإفتاء بأن تتوفر فيه، ويتجلى بها.

فما مدى انطباقها على المفتين في العالم الإسلامي المعاصر؟ إننا نقرر - والأسى يحز في نفوسنا - واقعا مريرا تعيشه الأمة الإسلامية في هذا الجانب؛ ذلك أن كثيرا من أولئك المفتين لا تتوفر فيه تلك الشروط، ولا تجتمع فيه الأمور التي ينبغي لمن أفتى أن يتحلى بها، ولا شك أن هذا كان له الأثر السيئ في المجتمع الإسلامي؛ فأحكام الدين تؤخذ - في كثير من الأحيان - عن أفواه من لا يصلح للفتيا، والثقة بما يقال في ذلك انتزعت؛ لكون القائل ليس أهلا لما يقول، والاضطراب في الفتاوي بين العامة انتشر حتى صار سببا للفوضى بينهم، والتشويش عليهم فيما يأخذون أنفسهم به.

والشيء الذي يتبادر إلى الذهن اقتراحه إزاء هذه المشكلة؛ للقضاء عليها، أو الحد من خطرها، أن لا يترك الباب للإفتاء مفتوحا لمن أراد أن يلج منه، بل ينبغي لولاة الأمور ومن يعنيهم هذا الشأن أن يضعوا قواعد أساسية بها يقومون الشخص، ويعلمون مدى صلاحيته لذلك، فيرشحوه لهذا الأمر، ويوجهوا عامة الناس نحوه في أخذ الأحكام، حين يحتاجون لذلك، وأن يمنعوا عن الإفتاء من لا يصلح لذلك، وينذروه إن لم ينته عنه، ويعاقبوه بما يتناسب مع حاله حين يتصدى له، ولو أصاب في ذلك، فإن إصابته مرة سيتبعها خطؤه مرات كثيرة في حالات أخرى، وليس فيما نقول تحجير لواسع؛ فإنه لا مانع من أن يختار في كل بلد من يصلح لذلك؛ حتى يفتيها في أمور دينها، ويخلصها مما قد ينبهم عليها في صلتها مع ربها، كما أنه ليس فيما نقول ابتكار لقول لم نسبق إليه وإلى العمل به؛ فقد قال الخطيب البغدادي (١): " قلت ينبغي لإمام المسلمين، أن يتصفح أحوال المفتين؛ فمن كان يصلح للفتوى، أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها، وأوعده بالعقوبة، إن لم ينته عنها ".

ويستأنس في عرض رأيه هذا بما حصل من خلفاء بني أمية في تعيينهم من يتصدى للفتيا بمكة، ومنعهم لغيرهم منها، فيقول (٢): " وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قوما يعينونهم، ويأمرون بأن لا يستفتي غيرهم (ويروي بسنده) إلى أبي يزيد الصنعاني عن أبيه قال: كان يصيح الصائح في الحاج: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن فعبد الله بن أبي نجيح ".


(١) الفقيه والمتفقه، ٢/ ١٥٣.
(٢) المصدر نفسه، ١٥٣ - ١٥٤.