مقتضى الفطرة وطبيعة البشر وبنائها على الخرص والتخمين الذي كذبه الواقع، ولإفضائها إلى نتائج خبيثة وعواقب وخيمة ومضار فادحة كما سيجيء بيانه في مضار الوسائل التي تتخذ لذلك، ولم يكتب لها الانتشار إلا بكثرة الدعاية والتلبيس على الناس ومصادفة هوى عند عباد الشهوات ومن يفرون من تحمل المسئوليات ويحرصون على نزواتهم دون المصالح العامة مع عوامل أخرى كالتقدم الصناعي وإقبال الناس على الصناعة وانتقالهم إلى المدن لذلك وزهدهم في الزراعة وانغماس الناس في الترف والنعيم وكثرة الكماليات والأثرة المادية فارتفعت الأسعار وكثرت التكاليف وعمل كل لنفسه بدافع غريزة حب التملك، وخرجت المرأة إلى ميدان العمل وكرهوا تحمل أعباء نفقة الأولاد ورعايتهم، ولم يلبث الأمر أن انكشف الستار وظهرت الحقيقة للمفكرين منهم فرجعوا عن ذلك، وردوا على هذه النظرية ردودا حاسمة.
الثالث: أن طبقات الناس متفاوتة غنى وفقرا، والطبقة الفقيرة منهم لا تتسع ثروتها لتربية الأولاد تربية تكفل لهم السعادة والهناء، وليس في أموالهم ما ينهض بتعليمهم تعليما عاليا يسمون به وتسمو به أمتهم فإذا تركوا وشأنهم في التناسل زاد عدد الأولاد وتكاثر، واشتدت الكارثة، وعجز أولياء أمورهم عن القيام بشئونهم تغذية وكسوة وتعليما على ما يرام، وعندئذ يعيشون عيشة لا يغبطون عليها أما الطبقة الغنية والمتوسطة فإن أولادهم إذا زاد عددهم تفتتت ثروتهم وهبط مستواهم وضعفت إمكانياتهم، وبذلك تسوء حالتهم وحال الأمة ويضعف شأنها وتتأخر علما وإنتاجا، وتعيش عيشة بؤس وشقاء، فلهذا وجب الحد من التناسل؛ صيانة للأسرة مما يتهددها من خطر كثرة الأولاد، وإنقاذا للأمة مما يتوقع لها من البلاء وشدة الأزمات (١) ".
المناقشة.
هذه الشبهة وليدة للشبهة الأولى وصنو لها، فيجاب عنها بما تقدم من المناقشة فيها ثم هي لا تزيد على أن تكون دعاية لتحديد النسل بتزيين الباطل، والتلبيس على الناس ليخدعوهم عن مقتضى فطرتهم السليمة التي فطرهم الله عليها، ويصدوهم عما هو مصدر سعادتهم، وما تتحقق به مصالحهم، ويحصل لهم به عوامل القوة والنماء والرخاء فإن الأولاد هم الأيدي العاملة وهم مصدر الثروة والنماء وزيادة الرخاء، فبكثرتهم تكثر الخيرات، ويزداد العمران في الأرض، وتنهض الأمم في جيشها وقوتها، وفي علمها واختراعها، وفي إنتاجها ورعايتها لجميع
(١) انظر ما نقله الأستاذ أبو الأعلى المودودي عن الأطباء وعلماء النفس في كتابه " حركة تحديد النسل