فقال صلوات الله وسلامه عليه-: أدبني ربي فأحسن تأديبي».
«وقال له صفيه وصديقه أبو بكر - رضي الله عنه: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك».
وكان -عليه الصلاة والسلام- يعتز بما منحه الله من نقاء الفطرة، وصفاء القريحة، وخلابة المنطق، ورجاحة الفكر، وسجاحة الأسلوب، فيقول:«أنا أفصح العرب بيد أني من قريش ونشأت في سعد بن بكر».
ولا غرو، فسفارة بين الخالق والمخلوق تعتمد على المنطق الخلاب، والبيان الجذاب، والحجة المقنعة، والحكمة البالغة، والكلام الذي يملك النفوس، ويأسر الألباب.
وإذا كان العرب أمة البلاغة، وأئمة الفصاحة؛ تعنو لهم أزمة القول، وتنقاد أعنة الكلام، ويهتفون بروائع الخيال، فينصاع لهم عصيه، ويذل لهم أبيه، وينقاد شامسه. وإذا كان الكلام صناعتهم التي بها يباهون ويتشدقون؛ فلا بد أن يكون الرسول الذي يبلغهم عن ربهم، ويهدم عقائدهم الباطلة، ومذاهبهم الزائفة؛ ويغير ما ألفوا من عادات، وما ورثوا من تقاليد. . لا بد أن يكون بيانه أسمى من بيانهم، ومنطقه أبلغ من منطقهم. ومن هنا كان تأييد الله سبحانه له بمعجزة القرآن، وحجة البيان.
ومن هنا كان بيانه- عليه السلام- السحر الحلال، والنبع الدافق، والمشرع العذب الذي يتفجر من طبع مهذب مصقول، وفطرة عريقة أصيلة، تساندت في صقلها أقوى العوامل، وتعاونت على إذكائها أبلغ المؤثرات، إذ نشأ وتقلب في أفصح القبائل وأصحها لهجة، وأخلصها منطقا، وأعذبها بيانا، وأرهفها جنانا، وأقومها سليقة.
كان مولده في بني هاشم، وهم ذروة قريش، سلاسة لسان، وفصاحة كلام، وسماحة بيان؛ وأخواله من بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ونشأته في قريش، وتزوج خديجة وهي من بني أسد، وكل هذه قبائل خصها الله بعرق في الفصاحة عريق، وسبب من البلاغة وثيق. . وكان ذلك كله إعدادا من الله لنبيه، لينهض بأتم دعوة، وأكمل رسالة. . وكذلك كان فصيح المنطق، سلس الأسلوب، مونق العبارة، رائع الحكمة، قوي الحجة، بليغ التأثير في النفوس، يحس المرء لكلامه حلاوة العسل، ويستشعر اللذة الفنية التي تهز النفوس، وتثير الأحاسيس، وتأخذ بمجامع القلوب. إذا تكلم خشعت القلوب من جلال العظة، وإذا خطب انقطعت الشبه لبلاغة الحجة، وامتلأت النفوس اقتناعا بالحقيقة، ورضا برأيه، وامتثالا لأمره.
يقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله -: لقد رأينا هذه البلاغة النبوية قائمة على أن كل لفظ هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة، فالعناية فيها بالحقائق، ثم هي تختار ألفاظها اللغوية على منازلها، وبذلك يأتي الكلام كأنه نطق للحقيقة المعبر عنها. ومعلوم أنه- صلى الله عليه وسلم- لا يتكلف. ولا يتعمل. . ومع هذا لا تجد في بلاغته موضعا يقبل التنقيح، أو تعرف له رقة من الشأن، كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مقياس وميزان.