للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الله عليه وسلم -: «ما قالة بلغتني عنكم؟ (١)» ثم يواصل الأسئلة: «ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ " ثم: " ألا تجيبونني يا معشر الأنصار (٢)»؟ " وهكذا.

٣ - التفريغ النفسي: ومما تعتمد عليه الخطبة تفريغ نفوس المخاطبين مما يثقلها فيما يتعلق بالموقف والموضوع، وذلك بموافقة المخاطبين في أهم ما يثير نفوسهم، فالخطبة لا تعارض المخاطبين ولا تخالفهم على طول الخط، فضلا عن أن تخطئهم من كل وجه أو تسفه موقفهم، ولو عمدت أي خطبة إلى هذا المسلك، لما وجدت طريقا واحدا مفتوحا إلى قلوب السامعين. فليس من الحكمة أن يلتزم أي خطيب أسلوب التعارض أو العداء مع المخاطبين، وإلا لأوصد قلوبهم وعقولهم دون كلامه، وإنما الحكمة أن يكتسب عواطفهم أولا بأي صورة، ثم يقودهم إلى الفكرة أو الاتجاه الذي يريد وقد يصل كسب عواطفهم إلى درجة مجاراة السامعين ولو في الخطأ، من باب الافتراض أو الجدل ثم يدور بهم الخطيب المحاور إلى الطريق المنشود، بل إن إبراهيم - عليه السلام- بلغ من الحكمة إلى درجة أن جارى سامعيه في الكفر شوطا، ليعود بهم إلى طريق الإيمان، لأنه لو عارضهم بادئ ذي بدء فسينفرون منه أما مجاراتهم هذا الشوط فإنها تؤلف بينه وبينهم حيث أصبحوا جميعا في طريق واحد، هو طريق الكفر في بدايته، وقد صور القرآن الكريم هذا الموقف من إبراهيم فيما ساقته سورة الأنعام من قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (٣).

حيث يوافقهم أولا على أن هذا الكوكب هو الإله، ليمضي بهم من هذه النقطة الكافرة إلى طريق الإيمان وهكذا.

وهذه الخطبة التي معنا تمتص كل ما في نفوس المخاطبين من غضب وموجدة، وتفرغ هذه النفوس من كل ما تضيق به بالنسبة لهذا الموقف، حتى لا يبقى جانب أو هاجس يوسوس فيها مع الخطبة أو بعدها، فيسلم لهم النبي - صلى الله عليه وسلم- بأنهم أصحاب فضل عليه وعلى المسلمين ويعدد لهم كل ما في نفوسهم أو أكثر مما في نفوسهم من هذا الفضل، ويسلم لهم ضمنا بأنه أعطى أكثر مما أعطاهم لمن هم دونهم إسلاما وفضلا، ويسلم لهم ضمنا بغير هذا أيضا، وهذه الأمور التي يسلم لهم بها ويوافقهم عليها هي ما تشغل نفوسهم، وتثير مشاعرهم، ولكن هذا التسليم يطفئ كل ما في نفوسهم من حرارة وتوتر، ويجرهم إلى قياده، ولو بقي أمر ذو أهمية يقتنعون به ويخالفهم فيه الخطيب من أساسه دون إقناعهم لظلت نفوسهم في هواجسها، ولكن الخطبة تفرغ كل ما في النفوس، مسلمة به من حيث المبدأ ولكنها تقودهم مع ذلك إلى الطريق المنشود، وكأنه بقوله لهم: أنا مسلم بما تقولون فلست مكذبا لكم، ولا منكرا عليكم هذا، وإنما أنكر


(١) مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٧٧).
(٢) مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٧٧).
(٣) سورة الأنعام الآية ٧٦