للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ج- وفيما حرمته السنة من بيع الكالئ بالكالئ، ما يبين منه أن حظر بيع الدين المؤجل بمؤجل مثله، وإن كان الدينان متماثلين نوعا ومقدارا وأجلا، كصرف ذهب بذهب مؤجلين إلى سنة ومتساويين وزنا وقيمة، مما لا يذر زيادة من فرق بينهما في القيمة أو الحلول تصلح لربط هذا الربا بربا الدين.

د- وينبغي لكل أولئك أن يعدل عن محاولة رد أنواع الربا المختلفة إلى أصل واحد يجمعها، وأن يبحث كل نوع من الربا بأحكامه ومقاصده مستقلا عن غيره من الربوات حتى لا تبغي دراسة بعضها على بعض، ويعود ربا النسيئة بحقيقته الشرعية إلى موضعه الصحيح بعد إذ اختفى من أقسام الربا عند بعض المفسرين والفقهاء، ومن أخذ عنهم من المستشرقين في معاجمهم، (١) إذ أقحموا ربا الدين على تقسيم الفقه الإسلامي لربوي البيوع اللذين حظرتهما أحاديث الفضل والنسيئة، وجاوزوا المصطلح الشرعي فجعلوا لربا الدين اسم ربا النسيئة، فصرفوا لفظ الربا إلى معنى الزيادة بدلا من معنى الحرمة المقصودة فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتفت المقابلة في التقسيم، إذ خلطوا ربا الدين بربا الفضل، وقد بينا اختلافهما كما أخطئوا الفرق بين ربا النسيئة الذي يحرم التأجيل في عقود محدودة، وربا الدين الذي لا يعرض بتحريم لتأجيل الديون، وإنما يقتصر التحريم فيه على أخذ عوض عن الأجل زيادة على رأس مال الدين.

هـ - والذي يبين من أحكام ربا النسيئة أن الإسلام إذ أباح ربح التجارة الآجلة، قد حرص على ألا تجاوز ما تقتضيه مصالح الأفراد والأمة جميعا منها، فحظر جميع البيوع التي يتأجل فيها البدلان معا، إذ لا تظهر مصلحة قائمة لأحد من المبتاعين فيها، وهي ليست من صنيع التجار العاملين بالأسواق عادة، ولا تحقق الخدمات التي تبتغى من النشاط التجاري، بل هي كثيرا ما تضر بانتظامه، وذلك في حظر بيع الدين بالدين، وفي ربا النسيئة بمعناه الدقيق يحظر الصرف أو المقايضة إذا كان أحد البدلين غائبا أو مؤجلا تسليمه، فمنع من ليس بيده ذهب ولا فضة أن يصيب من طريق الصرف نقدا حاضرا، وإذا كان النقدان هما رءوس أموال التجارة، فإن ربا النسيئة لا يذر في حلبتها إلا المتمول من التجار، أو ذا الثقة، الذي يتيسر له أن يجد من يمده بالمال، مضاربة تبتغي المشاركة فيما يفيء من التجارة، وإما قرضا حسنا يضمن المقترض رده، كما أن في حظر بيع المصوغات من الذهب والفضة نسيئة، ما يحد من اكتناز الأفراد للمعدنين الثمينين، وإبعادهما عن مجالات الاستثمار التي تتحقق من خلالها التنمية الاقتصادية للأمة (٢). وكذلك في مقايضة مواد الطعام ونحوها بعضها ببعض، حيث يحظر ربا النسيئة تأجيل بدل منها، يقتضي المتبايعين أن يجريا التصرف من طريق بيع النسيئة أو ما يشرع من السلم، فينأى بتلك المعاملات عن المقايضة ببدائيتها التي تتعقد مع الأجل، ويحد من بقاء تلك المواد دولة بين منتجيها، ليطلقها في مجالات التداول على اتساعها بالبيوع الآجلة بالنقود التي يتحقق بها الانضباط ويتحدد فيها مقابل التأجيل، حتى إذا طرأ ما يقتضي التعجيل تيسر لمن يحط من المقابل حساب ما يخصم منه. ويكون من حكمة ربا النسيئة، دعم التنمية الاقتصادية وحفظ مقومات التجارة وتقويم سبل الائتمان فيها، بإغلاق أبواب المعاملات الآجلة التي من شأنها الإخلال بتحقيق


(١) معجم هيوز، المرجع السابق ص٥٤٤ IN ARABIC ENGISH AXICON BY E. W. ANE ١٩٦٨ PART ٣.P. ١٠٢٣
(٢) التنمية الاقتصادية، للدكتور محمد زكي شافعي، ص٥١.