عنه النشاط المعقود عليه، وكما يتضامن رب المال والعامل في تحمل خطر الخسارة، يفيد رأس المال من كل زيادة تتحقق في ربح المضاربة خلال الأجل الذي تنتهي عنده، وبذلك جعل للأجل في التجارة عوضه الذي يتحدد ابتداء في البيوع، أو الذي يتحقق ويتحدد انتهاء في المضاربة.
ويتميز القرض من البيع، خلافا لما يذهب إليه بعض الفقهاء والمستشرقين الذين يجعلون القرض في أصله من المعاوضات ويدخلون رباه في ربا الفضل بالبيوع خطأ، ذلك أن القرض في شريعة الإسلام من التبرعات يتصدق فيه المقرض بمنفعة المال على سبيل العارية، وإذا كان المقرض لا يسترد ماله ذاته بل يسترد مثله، فلأن هذا المال مما يهلك بالانتفاع به، انفاقا كالنقود أو استهلاكا كالطعام، وليس أخذ هذا المثل المؤجل هو مقصود المقرض من العقد، ليكون كالبائع الذي يقصد أن يأخذ من المبتاع عوضا غير الذي يبيعه منه، ولو كان القرض من البيع لوقع في نطاق ربا النسيئة الذي يحظر مقايضة العين بمثلها مؤجلا، ولذلك جعل الفقهاء رد بدل العين في القرض بمثابة رد العين ذاتها خلاف سائر الديون.
ولكن مع اتفاق الفقهاء على حل المعاوضة عن الأجل في البيوع، وحرمتها في القروض وسائر الديون، اختلفوا في الديون المؤجلة حين يعجل أداؤها، فمنع فريق من الأئمة، منهم أبو حنيفة ومالك، أن ينقص شيء من الدين، إذ رأوا في مقابلة هذا النقص بما بقي من أجل الدين ما يشبه الربا الذي يجعل الزيادة فوق الدين مقابلة لأجله، وأخذ فريق بما «روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بجلاء يهود بني النضير، وسألوه عن ديون لهم مؤجلة، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام:" حطوا وتعجلوا"» فأجازوا أن ينقص من الدين المؤجل إذا عجل وفاؤه، ما يقابل الذي بقي من أجله. وانتهى متأخرو الحنفية إلى الفتوى بذلك في المرابحة (١).
وقد بني الاختلاف على أساس إحدى خصائص الربا التالية، وهي كونه مقابلا لزمان بقاء الدين في الذمة، ولكن لو نظر الأمر من وجه مشروعية المعاوضة عن الأجل، فإن الديون التي تحل الزيادة فيها لتأجيلها، كثمن النسيئة، لا يكون في الحط منها عند تعجيلها شيء من الربا، إذ يفترض اشتمال الثمن على عوض بمقدار الأجل كاملا، فإذا أدى الثمن، ولم ينقض إلا نصف الأجل، كان ما يقابل نصفه الآخر ولا سبب يستحق عنه. ولا يكون ربا فيما نقص من ديون بني النضير، إن كانت من المرابحة أو السلم، وقد كانوا يستحلون الزيادة فيها على الأميين وإن حرموا أخذها من اليهود، وقد أخرجها الإسلام من ربا الديون. أما إن كان الدين المؤجل من قرض، فلا يبدو وجه إنقاصه إذا عجل أداؤه، حتى عند من يرى لزوم الأجل فيه، لأن المقترض لا يرد شيئا فوق ما أخذ من المقرض في كل حين، وكما يحظر العوض من المدين عن منفعة الدين المؤجل، لا يحق له أن يقتضي المقرض عوضا عما بقي من الأجل الذي ارتضاه هذا الدائن تبرعا بالقرض للأجل كله. ويستوي القرض في ذلك كل دين تأجل أداؤه بأمر القضاء للإعسار، وتبقى الديون المؤجلة بحكم الشرع، كديات القتل الخطأ، يتنازعها الرأيان في جواز الحط عند تعجيلها أخذا بعموم الحديث الشريف، أو منع نقصها لما فيه من شبه الربا.
(١) بداية المجتهد لابن رشد ج٢ ص١١٨ وحاشية ابن عابدين ج٥ ص٥٢٦، ٥٢٥.