كان المدين غير فقير، وإنما يبتغي فضلا من استثمار القرض، فيما يحسن من التجارة أو نحوها من النشاط الاقتصادي، إذ لا يبدو في خشية استغلال الدائن له، ما يصلح حكمة لتحريم الربا، فكما تحتمل الخسارة في الاستثمار، حتى لا يجد المدين ما يؤدي منه الربا، يحتمل أن يكسب أضعاف الربا، حتى يتحيف ما كان يستحقه رب المال لو كان ما بينهما عقد مضاربة بدلا من المداينة الربوية، والإسلام لا يجعل احتمال الخسارة، بل ولا تحقق الغبن أو الاستغلال- موجبا لتحريم المعاوضات، إذ جعل للأفراد سلطانا في تحديد الائتمان ينفذ مع الغبن إن كان يسيرا، ولا يذر الغبن الفاحش إلا خيارا للمغبون لا يحظر معه بقاء الغبن. كما لا يتفق وحظر يمين التصرف الربوي القول بأن الدائن، إذ يأكل الربا إثمه أعظم من إثم مؤكله، باعتبار تحريم أكل الربا لذاته، أما المقترض فيرتكب محرما لغيره، وإذ لا يباح المحرم لذاته إلا للضرورة، ولا توجد ضرورة مطلقا تبيح أكل الربا، أما المحرم لغيره فيباح للحاجة، فمن كان في حاجة ماسة للاقتراض بالفائدة، لأنه لا يجد من يقرضه إلا بالفائدة، قيل: إن الله تعالى يرفع عنه الإثم، ويبوء بالإثمين من لم يقرضه إلا بفائدة. وكأن هذا القول يعتبر أصل الحظر في الربا متعلقا بأكله من المقترضين، وبنحو ذلك قريبا مما عند اليهود، ولكن ربا الدين في الإسلام يشبه الزنى، فيستوي في حظره عمل كل من طرفيه، إذ لا تبرم عقدته إلا بالتقاء هذين العملين، إيتاء المدين يقابله أخذ الدائن، ولا ترخص لدائن أو مدين في أخذ الربا أو إيتائه إلا في حال الضرورة (١).
فلا يباح لمكلف أن يقترض بالربا لمجرد الحاجة الماسة التي لا تبلغ حد الضرورة، وتتصور الضرورة في أكل الربا إن أطبقت أمة على أكله وأوصدت على المكلف وجوه الاستثمار المباحة لرأس ماله.
وتكون ثم حكم شتى لحظر الربا، لا تقتصر على من يأكله، بل تتعلق أيضا بمن يعطيه، وبمن يعين عليه، وبالأمة جميعا من ورائهم، في مجالات النشاط الاقتصادي والسلام الاجتماعي والسياسة المالية للدولة.
فكما يقصد تحريم الربا إلى كف أشحة الأغنياء عن أن يرهقوا الفقراء والمعسرين الذين تضطرهم حالهم إلى تأجيل قروضهم أو ديونهم، بعدم التصدق عليهم بفيئها ويشعرهم بكل تفريط في رعاية أحكام الزكاة، التي تكفل للفقير والمسكين ما يغنيه عن الاستقراض، وتتيح للمعسر الغارم أن يأخذ ما يفي بدينه ولا يضطر إلى طلب تأجيله- كذلك يتوجه التحريم إلى مترفي الأغنياء، ليتجافوا عن الدعة، وينأوا عن الفراغ، وإلى المدخرين كافة، وإن قل ما يدخرون، ليقدم كل منهم على تدبير استثمار ماله والنظر فيما يصلحه وفيما ينبغي اتقاؤه، لتجنب الخسارة فيه وزيادة الربح منه، وتنطلق تيارات النشاط وحوافز الكسب التي فطر الناس عليها في جنبات الأمة كلها، ويستوي للفرد من كل ذلك، رشد مالي يظهره على طرائق الاستثمار ويكسبه خبرة تيسر له اختيار أحسن السبل للتنمية، وتمنعه من أن يتحيفه مقترض بربا، يقل كثيرا عما يفيء به المال من واقع الاستثمار، أو يذهب بالمال ليستثمر في بلد أجنبي، تقتضى مصلحة رب المال وأمته من ورائه، أن يستثمر المال في غير هذا البلد، وفقا لما تجري عليه تجارة المصارف الربضوية، التي يقوم أصل كسبها على انتجاع مواطن الزيادة في الربا الذي تأخذه على ما تؤتيه مقرضيها من المودعين.
ويستشعر الغني كذلك مقتضيات التكافل مع من يعوزهم المال ويقدر آثار معاونتهم حق قدرها، في ترضيتهم وتوقي عواقب سخطهم، وهم الأكثرون، والحفاظ على تدفق نشاطهم
(١) انظر قرارات المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية، طبع الأزهر الشريف، ١٣٨٥/ ١٩٦٥