ترزح تحت أثقال الديون الخارجية وتعاني من أعبائها المالية والسياسية تضخما واختلالا في ميزان مدفوعاتها، وتدخلا في مقدارتها من الدول الدائنة. وما كانت تلك العاقبة الخاسرة لتقع، لو شارك أصحاب رءوس الأموال في القيام على جدية استثمارها ورعوا سلامة إنفاقها.
وإملاق مدين الربا لا يقتصر أثره عليه، بل ينعكس على الدائن، فيتعذر عليه استرداد ماله واستيفاء ما اشترط من الربا، ويثور النزاع بين الدائنين المرابين والمدينين، كما لهذا الإملاق صداه في الأمة؛ إذ يتصدع بهذا النزاع تماسكها الاجتماعي، كما تضار في استقلالها إن كان الدائن دولة أجنبية تستطيع أن تبغي عليها بدينها، وتخسر في كل حال ما ينقص من رأس المال القومي بقدر ما أضاعته المعاملات الربوية بين يدي المدينين المملقين من الأموال التي دفعت إليهم إسرافا، فعجزوا عن استثمارها وبددوا من رءوسها، وما كان الربا يصلح شأنهم، مهما قل مقداره وانتفى قصد استغلال الدائن لهم وابتزازه ثمرات جهدهم، وأدام حرص الدائن على اكتساب الربا يغريه بالإكثار من الإقراض بما لا طالة للمقترضين باستثماره، ولا يثني الدائن، إزاء هذا الإغراء، ما يعلمه من عجز المقترض.
ويزيد الإغراء، إن كان القرض من دولة لها مآرب أخرى في السيطرة على الدولة المستقرضة من طريق التسلل المالي الموهن لقدراتها، وكثيرا ما أدى ذلك إلى الاستعمار وما يسبقه من حروب مدمرة، وما يتخلله من ثورات ونهب للثروات، وما يعقبه من فقر وتخلف يرينان طويلا على الأمم بعد إذ أفلتت من نيره.
وتبقى حكمة حظر إيتاء الربا ماثلة في مخالفة المدين عما كلف، بما اقترض بالربا، وما يبوء به من الخسارة يرجع في أصله إلى المدين نفسه بأكثر مما يرجع إلى استغلال الدائن له، فإن المدين هو الذي فرط وحده في الاستثمار، بعد إذ فرط في اقتراض ما لا تستوعبه قدرته على التثمير، أو ما يجاوز حاجته الملحة فبسط يده مسرفا، وكان ضياع ماله في الحالين من مخالفته عن حظر إيتاء الربا الذي أغرقه بالدين وإن كان للدائن إثم ما اكتسب من إغرائه بالاستكثار من الدين.
ويكون في تحريم الربا ما يوجه الأموال التي تبتغي الاستثمار إلى التجارة مباشرة، ويبقى للإرفاق من أموال الصالحين من الأغنياء ما يضاف إلى ما للفقراء والمساكين والغارمين من مصارف الزكاة، حتى يفي بقروض المحتاجين، ويتكامل للأمة نشاطها الاقتصادي مع تكافلها الاجتماعي في تخطيط منضبط دقيق يلزم الحاكم فيها والمحكوم.
وكما أن في تحريم الزنى دفعا إلى الزواج الذي تقوم الأسرة عليه، وتحفظ بينها الأنساب وترعى الأولاد وتتصل الأجيال، وكما أن في القصاص حياة الأنفس بكف المعتدين أفرادا كانوا أو حاكمين، فتحمي حقوق الحياة والسلامة كما تحفظ الحريات العامة، ويبرأ المجتمع من بلايا الفساد والإرهاب، كذلك يأتي حظر الربا في الإسلام إحياء لموات الأموال بحشدها في خير أبواب الاستثمار لأصحابها ولمن تمس حاجتهم إليها وللأمة جميعا.
ونجد الرشد الذي يهدي إليه تحريم الربا يقابله التخبط من المس الذي وصفت به الآية الكريمة من سورة البقرة قيام الذين يأكلون الربا، وذلك بأنهم لم يهتدوا إلى إدراك نفع البيع وإثم الربا والشعور بحقيقة الفرق بينهما، مما يذر لحكمة التحريم تعلقا برعاية الملكات العقلية التي يكتمل بنضوجها ذلك الرشد، ويصيبها أخذ الربا أو إيتاؤه بالاختلال الذي يأتي على شخص المرابي مع ما أنقص من الأموال.