أما بعد: فإن من حكمة الله ورحمته بالعباد، أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، لدلالتهم على ما فيه خيرهم ونجاتهم في المبدأ والمعاد، وشرع لهم من الدين ما تقع به طهارة قلوبهم، وصلاح عقائدهم، وقوة صلتهم بخالقهم، واستقامة معاملتهم في بيعهم وشرائهم وسائر شئونهم، وقيام حياتهم على أساس من الخير والعدل والإنصاف، فلا غش ولا غرر، ولا ظلم ولا عدوان، بل هو الحق ضالة المؤمن، يقيمه على نفسه، ويقضي به بين الآخرين، فلله الحمد والمنة، وله الثناء والشكران.
فلولا ما شرع الله من القضاء لما ظهر حق وزهق باطل، ولا ادعى أقوام دماء آخرين وأموالهم، ولولا ما بنى الله من الحدود لضاعت حقوق ودماء، وأموال وأعراض، ولولا ما سن الله من التعازير لما كان للحق هيبته وصولته، ولأهدرت في ذلك حقوق لا تعد، وجنايات لا تحصى، لم تبلغ - بعد - مبلغ الحدود، فكان التعزير مرتعا خصبا للقضاة والحكام، يحفظون به للحق هيبته، ويظهرون به للباطل مغبته، وينهلون من معينه حين لا يجدون للجريمة حدا، ولا للجناية قودا.
وجرائم التعزير كثيرة لا تعد، تتجدد بمر الأعصار، واختلاف الأمصار، وإحداث الخلائق، يجمعها ضابط واحد، هو ما عرف به الفقهاء التعزير، كما سيأتي (١).