للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والمقصود هنا: أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم، أو نساجتهم، أو بنائهم؛ صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم، فإن الجند يلزمون بأن لا يظلموا الفلاح كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند.

والمزارعة جائزة في أصح قولي العلماء، وهي عمل المسلمين على عهد نبيهم، وعهد خلفائه الراشدين، وعليها عمل آل أبي بكر، وآل عمر، وآل عثمان، وآل علي، وغيرهم من بيوت المهاجرين، وهي قول أكابر الصحابة، كابن مسعود، وهي مذهب فقهاء الحديث، كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي، والبخاري، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن المنذر، وغيرهم، ومذهب الليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم من فقهاء المسلمين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات، ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر من خيبر، وكان قد شارطهم أن يعمروها من أموالهم، وكان البذر منهم لا من النبي -صلى الله عليه وسلم- ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن البذر يجوز أن يكون من العامل، بل طائفة من الصحابة قالوا لا يكون البذر إلا من العامل.

والذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- من المخابرة، وكراء الأرض، قد جاء مفسرا بأنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة، ومثل هذا الشرط باطل بالنص وإجماع العلماء، وهو كما لو شرط في المضاربة لرب المال دراهم معينة، فإن هذا لا يجوز بالاتفاق، لأن المعاملة مبناها على العدل، وهذه المعاملات من جنس المشاركات، والمشاركة إنما تكون إذا كان لكل من الشريكين جزء شائع كالثلث والنصف، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر لم يكن ذلك عدلا، بل كان ظلما.

وقد ظن طائفة من العلماء أن هذه المشاركات من باب الإجارات بعوض مجهول، فقالوا: القياس يقتضي تحريمها، ثم منهم من حرم المساقاة، والمزارعة، وأباح المضاربة استحبابا للحاجة، لأن الدراهم لا يمكن إجارتها كما يقول أبو حنيفة، ومنهم من أرباح المساقاة إما مطلقا كقول مالك والقديم للشافعي، أو على النخل والعنب كالجديد للشافعي، لأن الشجر لا يمكن إجارتها بخلاف الأرض، وأباحوا ما يحتاج إليه من المزارعة تبعا للمساقاة، فأباحوا المزارعة تبعا للمساقاة كقول الشافعي إذا كانت الأرض أغلب، أو قدروا ذلك بالثلث كقول مالك، وأما جمهور السلف وفقهاء الأمصار فقالوا: هذا من باب المشاركة لا من باب الإجارة التي يقصد فيها العمل، فإن مقصود كل منهما ما يحصل من الثمر والزرع، وهما