للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لأن ذلك يحتاج إلى سكناها، وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا نحو ألف وأربعمائة، وانضم إليهم أهل سفينة جعفر، فهؤلاء هم الذين قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم أرض خيبر، فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: «نقركم فيها ما شئنا (١)» - وفي رواية - ما أقركم الله وأمر بإجلائهم منها عند موته -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب (٢)».

ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر، وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه.

والمقصود هنا أن الناس إذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين فهذا على وجهين:

أحدهما: أن يحتاجوا إلى صناعتهم، كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت، فهؤلاء يستحقون الأجرة وليس لهم عند الحاجة إليهم أن يطالبوا إلا بأجرة المثل كغيرهم من الصناع.

والثاني: أن يحتاجوا إلى الصنعة والبيع، فيحتاجوا إلى من يشتري الحنطة ويطحنها وإلى من يخبزها ويبيعها خبزا، لحاجة الناس إلى شراء الخبز من الأسواق، فهؤلاء لو مكنوا أن يشتروا حنطة الناس المجلوبة ويبيعوا الدقيق والخبز بما شاءوا مع حاجة الناس إلى تلك الحنطة لكان ذلك ضررا عظيما، فإن هؤلاء تجار تجب عليهم زكاة التجارة عند الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين، كما يجب على كل من اشترى شيئا يقصد أن يبيعه بربح، سواء عمل فيه عملا أو لم يعمل، وسواء اشترى طعاما أو ثيابا أوحيوانا، وسواء كان مسافرا ينقل ذلك من بلد إلى بلد، أو كان متربصا به يحبسه إلى وقت النفاق، أو كان مديرا يبيع دائما ويشتري كأهل الحوانيت فهؤلاء كلهم تجب عليهم زكاة التجارة، وإذا وجب عليهم أن يصنعوا الدقيق والخبز لحاجة الناس إلى ذلك ألزموا كما تقدم، أو دخلوا طوعا فيما يحتاج إليه الناس من غير إلزام لواحد منهم بعينه، فعلى التقديرين يسعر عليهم الدقيق والحنطة فلا يبيعوا الحنطة والدقيق إلا بثمن المثل بحيث يربحون الربح بالمعروف من غير إضرار بهم ولا بالناس.


(١) صحيح البخاري المزارعة (٢٣٣٨)، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (٣٠٠٨).
(٢) صحيح مسلم الجهاد والسير (١٧٦٧)، سنن الترمذي السير (١٦٠٧)، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (٣٠٣٠)، مسند أحمد بن حنبل (١/ ٢٩).