للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذلك، ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل، وهذا من التسعير الواجب، وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك فيستعمل بأجرة المثل، لا يمكن المستعملون من ظلهم ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم مع الحاجة إليهم، فهذا تسعير في الأعمال.

وأما في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون، والإمام لو عين أهل الجهاد للجهاد تعين عليهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وإذا استنفرتم فانفروا (١)» أخرجاه في الصحيحين، وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وأثرة عليه (٢)».

فإذا وجب عليه أن يجاهد بنفسه وماله، فكيف لا يجب عليه أن يبيع ما يحتاج إليه في الجهاد بعوض المثل؟ والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (٣)

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (٤)» أخرجاه في الصحيحين، فمن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال، كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن، ومن أوجب على المعضوب أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه ولم يوجب الجهاد على المستطيع بماله فقوله ظاهر التناقض.

ومن ذلك إذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم؛ لعجزهم عن الطحن والخبز في البيوت، كما كان أهل المدينة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ولا من يبيع طحينا ولا خبزا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم، فلم يكونوا يحتاجون إلى التسعير، وكان من قدم بالحب باعه فيشتريه الناس من الجالبين، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون (٥)» وقال: «لا يحتكر إلا خاطئ (٦)» رواه مسلم في صحيحه، وما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنه نهى عن قفيز الطحان» فحديث ضعيف بل باطل، فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز لعدم حاجتهم إلى ذلك، كما أن المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفارا، لأن المسلمين كانوا مشتغلين بالجهاد.

ولهذا لما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحة، لعجز الصحابة عن فلاحتها،


(١) صحيح البخاري الحج (١٨٣٤)، صحيح مسلم الحج (١٣٥٣)، سنن الترمذي السير (١٥٩٠)، سنن النسائي البيعة (٤١٧٠)، سنن أبو داود الجهاد (٢٤٨٠)، سنن ابن ماجه الجهاد (٢٧٧٣)، مسند أحمد بن حنبل (١/ ٣١٦)، سنن الدارمي السير (٢٥١٢).
(٢) صحيح البخاري الجهاد والسير (٢٩٥٥)، صحيح مسلم الإمارة (١٨٣٩)، سنن الترمذي الجهاد (١٧٠٧)، سنن أبو داود الجهاد (٢٦٢٦)، سنن ابن ماجه الجهاد (٢٨٦٤)، مسند أحمد بن حنبل (٢/ ١٤٢).
(٣) سورة التغابن الآية ١٦
(٤) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (٧٢٨٨)، صحيح مسلم الحج (١٣٣٧)، سنن الترمذي العلم (٢٦٧٩)، سنن النسائي مناسك الحج (٢٦١٩)، سنن ابن ماجه المقدمة (٢)، مسند أحمد بن حنبل (٢/ ٥٠٨).
(٥) سنن ابن ماجه التجارات (٢١٥٣)، سنن الدارمي البيوع (٢٥٤٤).
(٦) صحيح مسلم المساقاة (١٦٠٥)، سنن الترمذي البيوع (١٢٦٧)، سنن أبو داود البيوع (٣٤٤٧)، سنن ابن ماجه التجارات (٢١٥٤)، مسند أحمد بن حنبل (٦/ ٤٠٠)، سنن الدارمي البيوع (٢٥٤٣).