للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مطلقا، وهو ظاهر مذهب الشافعي.

وقال طائفة: بل نهى عن ذلك لما فيه من ضرر المشترى إذا تلقاه المتلقي فاشتراه ثم باعه، وفي الجملة فقد نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البيع والشراء الذي جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر وهو ثمن المثل، ويعلم المشتري بالسلعة وصاحب القياس الفاسد يقول: للمشتري أن يشتري حيث شاء وقد اشترى من البائع كما يقول، وللبادي أن يوكل الحاضر.

ولكن الشارع رأى المصلحة العامة، فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل فيكون المشتري غارا له، ولهذا ألحق مالك وأحمد بذلك كل مسترسل، والمسترسل: الذي لا يماكس الجاهل بقيمة المبيع، فإنه بمنزلة الجالبين الجاهلين بالسعر، فتبين أنه يجب على الإنسان أن لا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف، وهو ثمن المثل، وإن لم يكن هؤلاء محتاجين إلى الابتياع من ذلك البائع، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو مسلمين إلى البائع غير مماكسين له، والبيع يعتبر فيه الرضا، والرضا يتبع العلم، ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى وقد لا يرضى، فإذا علم أنه غبن ورضي فلا بأس بذلك، وإذا لم يرض بثمن المثل لم يلتفت إلى سخطه.

ولهذا أثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس، فإن الأصل في البيع الصحة وأن يكون الباطن كالظاهر، فإذا اشترى على ذلك فما عرف رضاه إلا بذلك، فإذا تبين أن في السلعة غشا أو عيبا فهو كما لو وصفها بصفة وتبينت بخلافها فقد يرضى وقد لا يرضى، فإن رضي وإلا فسخ البيع وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما (١)»، وفي السنن «أن رجلا كانت له شجرة في أرض غيره، وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة فشكا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يقبل منه بدلها أو يتبرع له بها فلم يفعل، فأذن لصاحب الأرض في قلعها، وقال لصاحب الشجرة: إنما أنت مضار» فهنا أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها، فدل على وجوب البيع عند حاجة المشتري.

وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام؟.

ونظير هؤلاء الذين يتجرون في الطعام بالطحن والخبز، ونظير هؤلاء صاحب الخان والقيسارية والحمام إذا احتاج الناس إلى الانتفاع بذلك، وهو إنما ضمنها ليتجر فيها، فلو امتنع من إدخال الناس إلا بما شاء وهم يحتاجون لم يمكن من ذلك، وألزم ببذل ذلك بأجرة المثل، كما يلزم الذي يشتري الحنطة ويطحنها ليتجر فيها، والذي يشتري الدقيق ويخبزه ليتجر فيه مع حاجة الناس إلى ما عنده، بل إلزامه ببيع ذلك بثمن المثل أولى وأحرى، بل إذا امتنع من صنعة الخبز والطحن حتى يتضرر


(١) صحيح البخاري البيوع (٢١١٠)، صحيح مسلم البيوع (١٥٣٢)، سنن الترمذي البيوع (١٢٤٦)، سنن النسائي البيوع (٤٤٦٤)، سنن أبو داود البيوع (٣٤٥٩)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٤٠٢)، سنن الدارمي البيوع (٢٥٤٧).