للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عكرمة قال: سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب فقرأ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (١) وفي رواية له عنه أنه قال: كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم فإن الله تعالى قال وقرأ الآية - فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم، أي يكفي في كونهم منهم نصرهم لهم وتوليهم إياهم في الحرب.

ولما كان من شأن كثير من الناس التعمق في الأشياء وحب التشديد مع المخالفين استنبط بعض الفقهاء في هذا المقام مسألة جعلوها محل النظر والاجتهاد، وهي هل العبرة في حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم بمن كانوا يدينون بالكتاب (كالتوراة والإنجيل) كيفما كان كتابهم وكانت أحوالهم وأنسابهم، أم العبرة باتباع الكتاب قبل التحريف والتبديل وبأهله الأصليين كالإسرائيليين من اليهود. المتبادر من نص القرآن ومن السنة وعمل الصحابة أنه لا وجه لهذه المسألة ولا محل فالله تعالى قد أحل أكل طعام أهل الكتاب ونكاح نسائهم على الحال التي كانوا عليها في زمن التنزيل، وكان هذا من آخر ما نزل من القرآن، وكان أهل الكتاب من شعوب شتى وقد وصفهم بأنهم حرفوا كتبهم {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (٢) في هذه السورة نفسها كما وصفهم بمثل ذلك فيما نزل قبلها، ولم يتغير يوم استنبط الفقهاء تلك المسألة شيء من ذلك. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (٣) أن سبب نزولها محاولة بعض الأنصار إكراه أولاد لهم كانوا تهودوا على الرجوع إلى الإسلام فلما نزلت أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بتخييرهم، ولا شك أنه كان في يهود المدينة وغيرهم كثير من العرب الخلص ولم يفرق النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا الخلفاء الراشدين بينهم في حكم من الأحكام.

واستنبط بعضهم علة أخرى لتحريم طعام أهل الكتاب والتزوج منهم وهي إسناد الشرك إليهم في سورة التوبة بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (٤) مع قوله في سورة البقرة: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (٥) وهذا هو عمدة الشيعة في هذه المسألة، وأجيب عنه (أولا) بأن الشرك المطلق في القرآن إذا كان وصفا أو عد أهله صنفا من أصناف الناس لا يدخل فيه أهل الكتاب بل يعدون صنفا آخر مغايرا لهذا الصنف كما قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (٦)


(١) سورة المائدة الآية ٥١
(٢) سورة المائدة الآية ١٣
(٣) سورة البقرة الآية ٢٥٦
(٤) سورة التوبة الآية ٣١
(٥) سورة البقرة الآية ٢٢١
(٦) سورة البينة الآية ١