للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

" على أني وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونضح عني المحب المحابي، لا أكاد أخلص من غمر جاهل، أو ذي غمر (حقد) متجاهل، يضع مني لهذا الوضع، ويندد بأنه من مناهي الشرع، ومن نقد الأشياء بعين المعقول، وأنعم النظر في مباني الأصول، نظم هذه المقامات، في سلك الإفادات، وسلكها مسلك الموضوعات، عن العجماوات والجمادات، ولم يسمع بمن نبأ سمعه عن تلك الحكايات، وأثم رواتها في وقت من الأوقات، ثم إذا كانت الأعمال بالنيات، وبها انعقاد العقود الدينيات، فأي حرج على من أنشأ ملحا (١) للتنبيه، لا للتموين، ونحا بها منحى التهذيب، لا الأكاذيب، وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من انتدب لتعليم، وهدى إلى صراط مستقيم (٢) فهو يقول إنه لم يعرف أحد من علماء الأمة إلى زمنه أنه حرم أمثال تلك القصص التي وضعت عن الحيوانات ككتاب كليلة ودمنة وغيره؛ لأن المراد بها الوعظ والفائدة وصورة الخير في جزئياتها غير مرادة وما سمعنا بعده أيضا أن أحدا من العلماء حرم قراءة مقاماته، ولكن اجتهاد بعض المغرورين بالحظوة عند العوام يتجرءون على تحريم ما لم يحرمه الله ورسوله ولا حرم مثله أحد من علماء الملة، وهم مع هذا يتبرءون بألسنتهم من دعوة الاجتهاد واسم الاجتهاد ويشنعون على من يقول إنه يمكننا أن نعرف الأحكام بأدلتها الشرعية، فهم يعترفون بأنهم ليسوا أهلا للاستدلال ولا لمعرفة حكم بدليله، ويدعون أنهم مقلدون لبعض الأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم، فليأتونا بنص من أولئك الأئمة على تحريم ما حرموه إن كانوا صادقين.

ثم نقول من باب الدليل قد فسر الحرام في بعض كتب الأصول بأنه خطاب الله المقتضي للترك اقتضاء جازما، فليأتونا بخطاب الله المقتضي بتحريم تمثيل الوقائع الوعظية والتهذيبية، أما أصول المحرمات في الكتاب، فقد بينها الله تعالى بالإجمال في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (٣).

أفلا يخشى أولئك المتجرئون أن يكونوا من الذين يقولون على الله ما لا يعملون، الذين قال فيهم أيضا: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (٤).

وقال صلى الله عليه وسلم «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس (٥)». الحديث، وهو في الصحيحين والسنن كلها من حديث خيار الآل والصحب علي وولده الحسين والعبادلة الثلاثة وعمار والنعمان بن بشير رضي الله عنهم، فإذا كان الحرام بينا فكيف يخفى منه مثل هذا الحكم على جميع المسلمين في هذه القرون الطويلة، ولا يهتدي إليه إلا أولئك المضيقون في هذا العام؟


(١) وردت في المنار " مقامات ".
(٢) مقامات الحريري " تحقيق سلفستر دساسي " باريس - دار الطباعة الملكية ١٨٢٢ ص ١١ - ١٢.
(٣) سورة الأعراف الآية ٣٣
(٤) سورة النحل الآية ١١٦
(٥) صحيح البخاري الإيمان (٥٢)، صحيح مسلم المساقاة (١٥٩٩)، سنن الترمذي البيوع (١٢٠٥)، سنن النسائي البيوع (٤٤٥٣)، سنن أبو داود البيوع (٣٣٢٩)، سنن ابن ماجه الفتن (٣٩٨٤)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ٢٧٠)، سنن الدارمي البيوع (٢٥٣١).