للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهذه النصوص وأمثالها واضحة وصريحة في حرمة تناول مال الغير بغير رضاه، ولكن هذه النصوص ليست على إطلاقها بإجماع الفقهاء، فقد خص الدليل منها جواز انتزاع الحق من صاحبه بغير رضاه في أحوال متعددة منها غايته دفع ضرر خاص كما في الشفعة، وبيع مال المدين لسداد دينه، ومنها ما الغرض منه منفعة العامة كمحتكر الطعام في المسغبة يجبر على بيعه بثمن المثل، وكالعقار يحتاج إليه لتوسعة مسجد أو طريق أو غيرهما مما يتعلق بمنفعة العموم، فيجبر مالكه على بيعه وتدفع له القيمة، ويعبر عن هذا الأخير، بنزع ملكية العقار للمنفعة العامة، وفي هذا البحث نورد بعض الأدلة على جواز استملاك العقار للمنفعة العامة ووقوعه.

فقد ثبت في السنة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم اشترى عقارا ورصده للمنافع العامة، وثبت أن الخلفاء الراشدين استملكوا بيوتا، وسعوا بها المسجد الحرام، ومسجده صلى الله عليه وسلم، ومن رضى من أهلها دفعوا له القيمة، ومن امتنع رصدوا له القيمة، يأخذها متى شاء، وهدموا منزله.

روى البخاري في صحيحه عن ابن شهاب في قصة هجرته صلى الله عليه وسلم وبناء مسجده بالمدينة، قال «ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: لا بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا (١)».

وجاء في الطبقات الكبرى لابن سعد: أنه ابتاعه منهما بعشرة دنانير وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك ثم أخذ يصف موضع المسجد قبل استملاكه فقال: وكان جدارا مجدرا ليس عليه سقف، وقبلته إلى بيت المقدس، وكان أسعد بن زرارة بناه، فكان يصلى بأصحابه، ويجمع بهم فيه الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذي في الحديقة وبالغرقد الذي فيه أن يقطع، وأمر باللبن فضرب، وكان في المربد قبور جاهلية، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم


(١) صحيح البخاري المناقب (٣٩٠٦)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ١٧٦).