للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي. . . الخ. وهذا قول باطل بعيد عن الصواب، صدر عن جهل بحقيقة الدعاء وبحقيقة العبادة وبالأدلة الواردة على ذلك، وأنا أشير إلى شيء من ذلك فأقول: أما الدعاء فهو لغة النداء، ويطلق شرعا على دعاء العبادة ودعاء المسألة، وهما متلازمان فدعاء العبادة هو فعل كل الطاعات وأداء جميع القربات امتثالا لأمر الله وتقربا إليه، وهو متضمن دعاء المسألة، فإن المصلي داع بلسان الحال فكأنه يقول: إنما أصلي طلبا برضا الله وجزيل ثوابه، وهكذا في جميع الأعمال الصالحة لسان حال من يفعلها يقول: أريد من فعلها مغفرة الله وجنته فهو سائل في نفس الأمر، أما دعاء المسألة فهو السؤال والطلب كسؤال الجنة والتعوذ من سخط الله ومن النار ونحو ذلك، وهو ولا بد مستلزم لدعاء العبادة، فإن حقيقة العبادة الذل والخضوع والتواضع والإذعان، فالذي يدعو ربه يسأله حال تذلل وخشوع وإنابة وإخبات، فالسؤال دعاء والذل عبادة، وهكذا المصلى والصائم والمتصدق والذاكر والقارئ والطائف والعاكف والراكع والساجد. فإن كلا من هؤلاء حال فعله يكون راغبا في فضل الله طالبا لمنه وعطائه، ويكون مع ذلك متذللا ومذعنا منقادا لأمر الله خاضعا مخبتا له وذلك هو حقيقة العبادة، ومتى كان كذلك ورأينا من يسأل ربه من فضله ويمد إليه يد الافتقار ويلهج بالدعاء مستمطرا من فضل ربه، فإنا نسميه داعيا سائلا لله، فإذا كان مع ذلك قد أهطع وأقنع وخشع وتذلل وتواضع حال سؤاله فهو لذلك عابد لربه ظاهرا نحكم بذلك حسب ما رأينا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة (١)» ثم قرأ قول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (٢) الآية، ووجه الدلالة من الآية أنه تعالى أمر بدعائه، وذم المستكبرين عن عبادته، والقرينة تدل على أن المراد يستكبرون عن دعائي، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ} (٣) فجعل دعاءهم عبادة، وقال عن الخليل عليه السلام


(١) رواه الترمذي في تفسير سورة غافر عن النعمان رضي الله عنه.
(٢) سورة غافر الآية ٦٠
(٣) سورة غافر الآية ٦٦