للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أخفي عن غيره، ويسمي الذين لم يصلوا إلى درجته ومنزلته محجوبين مبعدين عن القرب الذاتي إلى ربهم، وقد يصل أحدهم إلى غاية قصوى تسمى عندهم بالفناء بحيث يفنى أحدهم بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده، بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وقد تجرهم هذه الأحوال إلى عقيدة سيئة هي اتحاد الخالق بالمخلوق عقيدة أهل الحلول، وقد يزعم بعضهم أن مشائخهم وأكابرهم يصلون إلى درجة تسقط عنهم التكاليف وتباح لهم المحرمات ونحو ذلك من الخرافات التي يمدحهم لأجلها هذا الكاتب وأضرابه، ونحن نقول: إن حلاوة الأنس بالله لا تحصل إلا بالاشتغال بذكره ودوام عبادته، والبعد عن القواطع والشواغل التي تقسي القلب وتحول بينه وبين التفكر في آلائه والتذكر لنعمائه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن للإيمان حلاوة وطعما كما في قوله: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار (١)» وقال صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا (٢)» وهكذا أخبر بأن العبادة بها تقر عينه ويرتاح بدنه، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة (٣)»، وقوله: «أرحنا يا بلال بالصلاة (٤)» فهذا ونحوه يفيد أنه عليه الصلاة والسلام يجد في الصلاة لذة قلبه وسروره وابتهاجه وغاية فرحه وراحة بدنه. حيث إنه في الصلاة ينقطع عن الغير ويقبل بقلبه على ربه ويلتذ بذكره ومناجاته، ويتقلب من حال إلى حال يجد في كل منها الأنس بالعبادة، وكذا يتنقل من ذكر إلى دعاء إلى تلاوة، وفي الجميع قوة للقلب والبدن. فبهذه الأوصاف تكون الصلاة مفيدة ومؤثرة على العبد وناهية عن الفحشاء والمنكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما يلتذ بالعبادة بأي وصف كانت، ولم يكن يؤثر الخلوة والانفراد، وليس في كون الصلاة قرة عينه ما يدل على أحوال الصوفية وأذواقهم ومواجيدهم ولو من بعيد،


(١) رواه مسلم ٢/ ١٣ عن أنس رضي الله عنه.
(٢) رواه مسلم ٢/ ٢ عن العباس رضي الله عنه.
(٣) رواه أحمد م ٣/ ١٢٨ وغيره عن أنس رضي الله عنه.
(٤) رواه أحمد ٥/ ٣٦٥ وغيره.