للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن الصلت كاتب حبان بن سريح، أخبرهم أن حبان كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أن ناسا من القبط قامت عليهم البينة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا، وأن الله يقول: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (١) فقرأ حتى بلغ: {وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} (٢) وسكت عن النفي، وكتب إليه: فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي قضاء الله فيهم؛ فليكتب بذلك، فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه قال: لقد اجتزأ حبان ثم كتب إليه: أنه قد بلغني كتابك وفهمته، ولقد اجتزأت كأنما كتبت بكتاب يزيد بن أبي مسلم، أو علج صاحب العراق من غير أن أشبهك بهما. فكتبت بأول الآية ثم سكت عن آخرها، وأن الله يقول: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (٣)؛ فإن كانت قامت عليهم البينة بما كتبت به فاعقد في أعناقهم حديدا ثم غيبهم إلى شغب وبدا.

قال أبو جعفر: شغب وبدا موضعان.

وقال آخرون: معنى النفي من الأرض في هذا الموضع: الحبس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معنى النفي من الأرض في هذا الموضع هو نفيه من بلد إلى بلد غيره. وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه. حتى تظهر توبته من فسوقه، ونزوعه عن معصيته ربه.

وإنما قلت: ذلك أولى الأقوال بالصحة؛ لأن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت. وإذا كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن الله - جل ثناؤه - إنما جعل جزاء المحارب القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف بعد القدرة عليه، لا في حال امتناعه، كان معلوما أن النفي أيضا إنما هو جزاؤه بعد القدرة عليه لا قبلها، ولو كان هروبه من الطلب نفيا له من الأرض كان قطع يده ورجله من خلاف في حال امتناعه وحربه على وجه القتال، بمعنى إقامة الحد عليه بعد القدرة عليه، وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله - عز وجل - حدا له بعد القدرة عليه، وإذا كان كذلك فمعلوم أنه لم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها أو السجن، فإذا كان ذلك كذلك فلا شك أنه إذا نفي من بلدة إلى أخرى غيرها فلم ينف من


(١) سورة المائدة الآية ٣٣
(٢) سورة المائدة الآية ٣٣
(٣) سورة المائدة الآية ٣٣