للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القتل بنفس الردة دون المحاربة، والمذكور في الآية من استحق القتل بالمحاربة فعلمنا أنه لم يرد المرتد وأيضا ذكر فيه نفي من لم يتب قبل القدرة عليه، والمرتد لا ينفى فعلمنا أن حكم الآية جار في أهل الملة، وأيضا فإنه لا خلاف أن أحدا لا يستحق قطع اليد والرجل بالكفر، وأن الأسير من أهل الردة متى حصل في أيدينا عرض عليه الإسلام، فإن أسلم وإلا قتل، ولا نقطع يده ولا رجله وأيضا فإن الآية أوجبت قطع يد المحارب ورجله ولم توجب معه شيئا آخر، ومعلوم أن المرتد لا يجوز أن تقطع يده ورجله ويخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم، والله تعالى قد أوجب الاقتصار بهم في حال على قطع اليد والرجل دون غيره، وأيضا ليس من حكم المرتدين الصلب، فعلمنا أن الآية في غير أهل الردة، ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (١)، وقال في المحاربين {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (٢) فشرط في زوال الحد عن المحاربين وجود التوبة منهم قبل القدرة عليهم وأسقط عقوبة الكفر بالتوبة قبل القدرة وبعدها، فلما علم أنه لم يرد بالمحاربين أهل الردة فهذه الوجوه التي ذكرناها كلها دالة على بطلان قول من ادعى خصوص الآية في المرتدين. فإن قال قائل: قد روى قتادة وعبد العزيز بن صهيب وغيرهما عن أنس قال: «قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - أناس من عرينة، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو خرجتم إلى ذودنا فشربتم من ألبانها وأبوالها ففعلوا فلما صحوا قاموا إلى راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتلوه ورجعوا كفارا واستاقوا ذود رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأرسل في طلبهم، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا (٣)».

قيل له: إن خبر العرنيين مختلف فيه، فذكر بعضهم عن أنس نحو ما ذكرنا، وزاد فيه أنه كان سبب نزول الآية، وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أنها نزلت في أصحاب أبي برزة الأسلمي، وكان موادعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الإسلام؛ فنزلت فيهم، وروي عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين، فلم يذكر مثل قصة العرنيين، وروي عن ابن عمر: أنها نزلت في العرنيين، ولم يذكر رده. ولا يخلو نزول الآية من أن يكون في شأن العرنيين أو الموادعين، فإن كان نزولها في العرنيين وأنهم ارتدوا فإن نزولها في شأنهم لا يوجب الاقتصار بها عليهم؛ لأنه لا حكم للسبب عندنا، وإنما الحكم عندنا لعموم اللفظ


(١) سورة الأنفال الآية ٣٨
(٢) سورة المائدة الآية ٣٤
(٣) صحيح البخاري الديات (٦٨٩٩)، صحيح مسلم كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (١٦٧١)، سنن الترمذي الطهارة (٧٢)، سنن النسائي تحريم الدم (٤٠٢٩)، سنن أبو داود الحدود (٤٣٦٤)، سنن ابن ماجه الحدود (٢٥٧٨)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ١٠٧).