للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (١) فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم، فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا وردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة. وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة (٢)» والله أعلم.

ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجري هذا الذنب مجرى غيره، ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة، وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (٣) أما أن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية.

الخامسة عشرة - قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (٤) استثنى جل وعز التائبين قبل أن يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم، بقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (٥) أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع وتقام الحدود عليه كما تقدم. وللشافعي قول: إنه يسقط كل حد بالتوبة، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصا كان أو غيره، فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه.

وقيل: أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وآمن قبل القدرة عليه، فإنه تسقط عنه الحدود، وهذا ضعيف؛ لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضا بالإجماع.

وقيل: إنما لا يسقط الحد من المحاربين بعد القدرة عليهم، والله أعلم؛ لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الإمام، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب، فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم فلا تهمة، وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة (يونس)، فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ثم


(١) سورة المزمل الآية ٢٠
(٢) صحيح البخاري الإيمان (١٨)، صحيح مسلم الحدود (١٧٠٩)، سنن الترمذي الحدود (١٤٣٩)، سنن النسائي البيعة (٤١٦١)، سنن الدارمي السير (٢٤٥٣).
(٣) سورة النساء الآية ٤٨
(٤) سورة المائدة الآية ٣٤
(٥) سورة المائدة الآية ٣٤