الوليد: فأما من يثبت ذلك عليه بشهادته فإنه يحتاج إلى معرفة صفتهم وعددهم، فأما صفتهم فقد قال القاضي أبو الحسن في كتابه: إن صفة الشاهدين على الرائحة، أن يكونا ممن خبر شربها في وقت ما، إما في حال كفرهما أو شرباها في إسلامهما فجلدا ثم تابا؛ حتى يكونا ممن يعرف الخمر بريحها- قال القاضي أبو الوليد: هذا عندي فيه نظر؛ لأن من هذه صفته معدوم قليل ولو لم تثبت الرائحة إلا بشهادة من هذه صفته لبطلت الشهادة بها في الأغلب، وقد يكون من لم يشربها قط يعرف رائحتها معرفة صحيحة؛ بأن يخبره عنها المرة بعد المرة من قد شربها أنها هي رائحة الخمر حتى يعرف ذلك كما يعرفها الذي قد شربها.
(مسألة): وأما العدد فلا يخلو أن يكون الحاكم أمر الشهود بالاستنكاه أو فعلوا هم ذلك ابتداء، فإن كان الحاكم أمرهم بذلك فقد روى ابن حبيب عن أصبغ أنه يستحب أن يأمر شاهدين، فإن لم يكن إلا واحدا وجب به الحد، وأما إن كان الشهود فعلوا ذلك من قبل أنفسهم فلا يجزئ أقل من اثنين كالشهادة على الشرب، وقد روى ابن وهيب عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه إن لم يكن مع الحاكم إلا واحدا فليرفعه إلى من هو فوقه، قال القاضي أبو الوليد - رحمه الله تعالى -: وما رواه ابن حبيب عن أصبغ مبني على أن الحاكم يحكم بعلمه فلذلك جاز عنده علم من استنابه وإلا فقد يجب أن لا يحد في ذلك حتى يشهد عنده فيه شاهدان.
(الثالث): فيما يجب بشهادة الاستنكاه ولا يخلو أن يكون الشهود متيقنين للرائحة أو شاكين فيها، فإن كانوا متيقنين للرائحة فلا يخلو أن يتفقوا على أنها رائحة مسكر أو على أنها غير رائحة مسكر، أو يختلفوا في ذلك؛ فإن اتفقوا على أنها غير رائحة مسكر فلا نعلم في المذهب خلافا في وجوب ترك الحد، وإن اتفقوا على أنها رائحة مسكر وجب الحد عليه وإن اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: رائحة مسكر، وقال بعضهم: ليس برائحة مسكر، فقد قال ابن حبيب: إذا اجتمع منهم اثنان على أنها رائحة مسكر حد؛ ووجه ذلك أن الشهادة قد قامت وكملت، ولا يؤثر في ذلك نفي من نفى مقتضاها، كما لو شهد شاهدان أنهما رأياه شرب خمرا، وقال آخران: لم يشرب خمرا.
(مسألة): فإن شك الشهود في الرائحة هل هي رائحة مسكر أو غيره نظرت حاله؛ فإن كان من أهل السفه نكل، وإن كان من أهل العدل خلي سبيله، حكاه ابن القاسم في العتبية والموازية، ووجه ذلك أن من عرف بالسفه والشر والتخليط خيف أن يكون ما شك فيه مما حرم عليه، ووجب أن يزجر عن التسمية بذلك؛ لكي لا يتطرق بذلك إلى إظهار معصية، وأما من كان من أهل العدل فتبعد عنه الريبة، والله سبحانه وتعالى أعلم.