ثم إنه عليه الصلاة والسلام ترك هذا المنهج في أيد أمينة وقوية، في أيدي جماعة كانت حريصة على الأمة حرصا يشبه حرصه عليه الصلاة والسلام عليهم، وهم رجال رباهم على المنهج، واطمأن إلى فهمهم للمنهج، وهم أصحابه الذين اختارهم الله لصحبته، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وإخوانهم، فحافظوا على المنهج وأحسنوا التصرف فيه بحزم دونه كل حزم ودعوا إليه بصدق وإخلاص وضحوا في سبيل ذلك بكل ممكن.
وفور وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام ارتدت بعض قبائل العرب، وبعضها منعت الزكاة، فنهض أبو بكر لقتالهم، فتوقف باقي الصحابة وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة مجتهدين، قالوا: كيف نقاتل قوما يشهدون ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ فأقسم بالله أبو بكر الصديق لو أنهم منعوه عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام لقاتلهم، لأنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة، ولأن الزكاة من حقوق الإسلام وواجباته المالية، ولأن الإسلام بجميع حقوقه وواجباته إنما هو لله الحي الذي لا يموت، فلا يموت الإسلام ولا شيء من واجباته بموت النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا هو أول إعلان أعلنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما علم ما حصل لعمر بن الخطاب عندما قبض النبي عليه الصلاة والسلام، إذ ظن عمر أن النبي لم يقبض بعد، بل إنه سوف يعود، فهدأه أبو بكر فقال فيما قال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى من سورة آل عمران:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(١).
واندهش عمر عند سماعه هذه الآية دهشة قريبة من دهشته من وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يقول: كأنه لم يسمع هذه الآية قبل هذه المرة، وهو يحفظها ويقرؤها وكأنها نزلت من توها وهي تخاطبه.
وبعد ذلك البيان من الخليفة الأول أبي بكر الصديق، رجع عمر ومن معه إلى رأي أبي بكر فاقتنعوا بوجوب قتال مانعي الزكاة، إذ لو لم يفعلوا لكانت فتنة في صفوف الأمة