للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سمع بعض السلف أن قوما لازموا لباس الصوف زاعمين التشبه بالمسيح قالوا: هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا. وهو يلبس القطن وغيره. ينسب هذا الكلام إلى ابن سيرين رحمه الله، ويروي لنا شيخ الإسلام: أن مدينة البصرة قد عرفت من تلك الفترة بهؤلاء المتصوفة وتصوفهم، كما عرفت الكوفة بالفقه والآراء والقضاء حتى قيل: عبادة البصرة وفقه الكوفة.

هكذا ظهرت جاهلية التصوف، ومن هذه المدينة انتشرت.

ولو رجعنا إلى الوراء في تاريخنا الطويل، لوجدنا أن هذه البدعة التي تسمى بالتصوف اليوم قد أطلت برأسها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أنها قمعت عند أول ظهورها أو التفكير فيها، وذلك عندما جنح بعض الناس إلى نوع من الرهبانية، «فذهب ثلاثة أشخاص من الصحابة إلى بيت من بيوت الرسول عليه الصلاة والسلام، فسألوا عن عبادته عليه الصلاة والسلام، فلما أخبروا كأنهم تقالوها - أي رأوا أن ما يفعله الرسول من العبادة قليل، فهم يريدون أكثر من ذلك. فقال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال الثاني: وأما أنا فأقوم الليل ولا أنام. وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء. فلما بلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام طلبهم فأتي بهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ فلم يسعهم إلا أن يقولوا: نعم. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: أما والله إني لأعبدكم وأخشاكم لله، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (١)». .

هذه الواقعة رويناها بالمعنى تقريبا، وهي عند الشيخين وبعض أهل السنن (٢).

ومما يلاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام استخدم في إنكار هذه البدعة أسلوبا لا نعلم أنه كان يستخدمه عندما يبلغه أن إنسانا ما ارتكب مخالفة أو أتى معصية، بل كانت عادته الكريمة المعروفة أنه في مثل هذه الحالة يجمع الناس فيوجه إليهم كلمة عامة واستنكارا وتوبيخا لا مجابهة فيه، كأن يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ وقد كان هذا الأسلوب كافيا للردع والإنكار مع ما يتضمنه من الستر على مقترف تلك المعصية. ولكننا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام هذه المرة يطلب حضور الثلاثة الذين


(١) صحيح البخاري النكاح (٥٠٦٣)، صحيح مسلم النكاح (١٤٠١)، سنن النسائي النكاح (٣٢١٧)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٢٨٥).
(٢) البخاري ومسلم والنسائي.