للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إلا بالدعوة، ولا هلكت أمة في الأرض إلا بعد أن أعرضت عن الدعوة، أو قصر عقلاؤها في الأخذ على يد سفهائها، وما تداعت أركان ملة بعد قيامها، ولا درست رسوم طريقة بعد ارتفاع أعلامها إلا بترك الدعوة.

* فإذا أهملت (الدعوة) فشت الضلالة وشاعت الجهالة وخربت البلاد وهلك العباد. . فنعوذ بالله أن يندرس من هذا القطب عمله وعلمه وأن ينمحي حقيقته ورسمه. . .

وقد علم بالاضطرار من دين (الرسول صلى الله عليه وسلم)، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك (معاذا) حين بعثه إلى (اليمن). . . .

فبذلك يصير الكافر مسلما والعدو وليا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال. . . وقد قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الله صابرا محتسبا كما أمره الله بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (١) وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (٢) فكان يغشى الناس في مجالسهم في أيام المواسم ويتبعهم في أسواقهم فيتلو عليهم القرآن ويدعوهم إلى الله عز وجل ويقول: " من يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة "، فلا يجد أحدا ينصره ولا يؤويه ولم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة وكان المستجيب له خائفا من عشيرته وقبيلته يؤذى غاية الأذى وينال منه وهو صابر على ذلك صلى الله عليه وسلم. . . وأقام صلوات الله وسلامه عليه على هذا بضع عشرة سنة: قال أبو قيس (صرمة بن أبي أنس الأنصاري) رضي الله عنه:

ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا

ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا

فلما أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسرورا بطيبة راضيا

* والقرآن الكريم ينزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبينا حال الرسل المتقدمين مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجاة والخصومات وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين؛ ليكون له بهم أسوة فتتسلى نفسه ويطيب قلبه وتهون عليه جميع المصاعب. .

{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (٣) وقال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (٤) ومعلوم من سنة الله في خلقه: أن الحق يتصارع مع الباطل وأنه لا بد أن يقيض الله


(١) سورة الحجر الآية ٩٤
(٢) سورة يوسف الآية ١٠٨
(٣) سورة هود الآية ١٢٠
(٤) سورة الأنعام الآية ٣٤