للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

احتج الأولون بأنه لو لم يتجزأ الاجتهاد لزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل. واللازم منتف، فكثير من المجتهدين قد سئل فلم يجب، وكثير منهم سئل عن مسائل فأجاب في البعض وهم مجتهدون بلا خلاف.

ومن ذلك ما روي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة فأجاب في أربع منها وقال في الباقي: لا أدري (١).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية (٢): والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزؤ والانقسام. بل قد يكون الرجل في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة، وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه، فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره، واشتغال على مذهب إمام آخر، وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه، وحينئذ فتكون موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام، وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل، فهذا هو الذي يصح. وإنما تنزلنا هذا التنزيل؛ لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قائما في هذه المسألة؛ لضعف آلة الاجتهاد في حقه، أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يرفع به النص، فهذا يجب عليه اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يقول قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص، وأنا لا أعلمها فهذا يقال له: قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (٣) وقال النبي


(١) المرجع السابق.
(٢) مجموع الفتاوى (٢٠/ ٢١٢ - ٢١٣).
(٣) سورة التغابن الآية ١٦