للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فكرة مشاعة لم تخل عنها أمة من الأمم في القديم والحديث، رغم تفاوتهم في مدارج الرقي ودركات الهمجية ".

ثم قال: ". . . ولسنا ننكر أن تكون هناك عقيدة معينة قد استحدثت في عصر ما، أو أن يكون ثمة وضع خاص من أوضاع العبادات قد جاء مجلوبا مصنوعا، فذلك سائغ في العقل، بل واقع بالفعل، أما فكرة التدين في جوهرها، فليس هناك دليل واحد على أنها تأخرت عن نشأة الإنسان ".

. . . وأخيرا هناك فريق خامس.

هو فريق العلمانيين الماديين، الذين لم يستطيعوا أن ينكروا أن هناك ديانات عريقة في القدم، ولكنهم زعموا - زورا وبهتانا - أنها شاخت بمرور الزمن، ولم تعد صالحة في وقت بلغت البشرية فيه ما بلغت من تقدم في العلم ورقي في الحضارة.

يقول أصحاب هذا المذهب وعلى رأسهم (أوجست كونت): " إن العقلية الإنسانية قد مرت بأدوار ثلاثة: دور الفلسفة الدينية، ثم دور الفلسفة التجريدية، ثم دور الفلسفة الواقعية، وهذا الدور - في نظره - هو آخر الأطوار وأسماها، فبعد أن كان الناس يعللون الظواهر الكونية بقوة أو قوى إرادية خارجة عنها، انتقلوا إلى تفسيرها بمعان عامة، وخصائص طبيعية كامنة فيها، كقوة النمو، والمرونة، والحيوية. . . إلخ، ثم انتهوا إلى رفض كل تفسير خارجي أو داخلي، واكتفوا بتسجيل الحوادث كما هي، ومعرفة ما بينها من ترابط وجودي، بقطع النظر عن أسبابها وغاياتها، وعلى هذا يكون دور التفكير الديني يمثل الحال البدائية التي تلهت بها الإنسانية في مرحلة طفولتها، فلما شبت عن الطوق خلعتها لتستبدل بها ثوبا وسطا في دور مراهقتها، حتى إذا بلغت أشدها، واكتمل رشدها أخذت حلتها الأخيرة من العلوم التجريبية " (١).

ويعلق على هذا المذهب أستاذنا المرحوم الشيخ محمد عبد الله دراز فيقول: " نقطة الخطأ البارزة في هذا المذهب التطوري، هي أن أنصاره جعلوا منه قانونا يستوعب التاريخ كله في شوط واحد، قطعت الإنسانية ثلثيه بالفعل، ونفضت أو كادت تنفض يدها منهما إلى غير رجعة، فلن تعود إليهما إلا أن يعود الكهل إلى طفولته وشبابه " (٢).

ثم يمضي في مناقشة هذا المذهب مبينا أن الأدوار الثلاثة المذكورة " لا تمثل أدوارا تاريخية متعاقبة، بل تصور نزعات وتيارات متعاصرة في كل الشعوب، وليست كلها دائما على درجة واحدة من الازدهار أو الخمول في شعب ما، ولكنها تتقلب بها الأقدار بين بؤسى ونعمى، ونحوس وسعود (٣) ".


(١) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص ٧٧.
(٢) الدين ص ٧٧.
(٣) المرجع السابق ص ٧٨.