إن ذلك المنهج -بصفة عامة- قد سيطر على حركة التاريخ البشري في سائر كتابات المؤرخين- باستثناء النظرات العارضة التي تناولناها آنفا -حتى ظهر ذلك العملاق العبقري المغربي الأندلسي المسلم عبد الرحمن بن خلدون.
إلا أننا -خضوعا للموضوعية- نضطر إلى القول بأن مؤرخنا المسلم العظيم قد استطاع أن يضع فعلا رؤية تنظيرية لتفسير التأريخ بعوامل مختلفة، سماها طورا العصبية الدينية أو القبلية، وسماها طورا البيئة (أي الأثر الجغرافي) كما ألمع إلى العوامل البيولوجية والاقتصادية. . .
إلا أن المؤرخ الكبير لم يقدم لنا دراسة تاريخية تطبيقية نستطيع أن نتكئ عليها لكي نقول: إنه قد فتح عصرا جديدا في نهج التأليف التاريخي، كما أنه من سوء حظ مؤرخنا الكبير، أن إشعاعاته القوية واجهت أمة نائمة، كانت تعيش فترة اضطراب حضاري، فلم تستطع إيقاعاته بالتالي أن تقوم بدورها في تحريك المجتمع الإسلامي الفوار بالاضطرابات والشرور خلال القرون التي سبقت عصر اليقظة في أوربا. . أي الثامن والتاسع والعاشر للهجرة، (الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر للميلاد).
ومع صخب الصراعات الصغيرة الطائفية في المجتمع الإسلامي العريض ضاعت إيقاعات ابن خلدون. . فلم تظهر إلا بعد أن اكتشف أصداءها أوربيون كانوا يصغون بانتباه حضاري كبير لكل الإيقاعات المنبعثة من أركان العالم الإسلامي المتحضر. وهذا حق لا يمكن إنكاره؛ فإن ابن خلدون كان خميرة قوية، وإن لم نستطع نحن المسلمين الإفادة منها، فإن الأوربيين قد أفادوا منها أي إفادة، ويعتبر ابن خلدون من القلائل الذين ترجمت أعمالهم في وقت مبكر إلى كل لغات العالم الحية تقريبا، وقد كتب الأوربيون حول مقدمته الشهيرة (وهي الجزء الأول من كتابه الكبير " العبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر) مئات الدراسات، بحيث لا يجد المؤرخ المسلم أي حرج في أن يصرح بأن تأثير فكر ابن خلدون (بمقدمته في تفسير التأريخ وعلم العمران البشري) كان تأثيرا مباشرا وقويا وحاسما في