للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تتسم بها الرياسة والملك، ولكن صاحب الرياسة يطلب بطبعه الانفراد بالملك والمجد، والطبيعة الحيوانية تدفعه إلى الكبر والأنفة، فيأنف من أن يشاركه أهل عصبيته فيدفعهم عن ملكه، ويأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة، حتى يصبحوا بعض أعدائه، وطبيعة التأله في الملوك تدفعه إلى الاستئثار، إذ لا تكون الرياسة إلا بالانفراد، فيجدع أنوف عشيرته وذوي قرباه لينفرد بالملك والمجد ما استطاع، ويعاني الملك في ذلك بأشد مما عانى في إقامة الملك، لأنه كان يدافع الأجانب وكان ظهراؤه على ذلك أهل العصبية أجمعهم، أما حين الانفراد بالملك فهو يدافع الأقارب مستعينا بالأباعد، فيركب صعبا من الأمر. إنه أمر في طبائع البشر لا بد منه في كل الملوك. على أن العامل الحاسم في ضعف الدولة هو الترف، إنه إذا كان قد زاد من قوة الدولة في أولها، فإنه أشد العوامل أثرا في ضعفها وانهيارها، ويفسر ابن خلدون ذلك بأسباب اقتصادية وأخلاقية ونفسية (١).

أما العامل الاقتصادي فإن طبيعة الملك تقتضي الترف حيث النزوع إلى رقة الأحوال في المطعم والملبس والفرش والآنية، وحيث تشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة، وحيث إجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل مع التوسعة في الأعطيات على الصنائع والموالي، وإدرار الأرزاق على الجند، ويزيد الانغماس في الترف والنعيم لا من جانب السلطان وبطانته فحسب، بل من جانب الرعية أيضا، إذ الناس على دين ملوكهم (٢).

أما العامل الأخلاقي النفسي، الذي يجعل الترف معول هدم يؤدي إلى انهيار الدولة، فمبعثه في رأي ابن خلدون ما يلزم عن الترف من فساد الخلق، فإن عوائد الترف تؤدي إلى العكوف على الشهوات وكثير من مذمومات الخلق، فتذهب عن أهل الحضر طباع الحشمة ويقذعون في أقوال الفحشاء، فضلا عن أن الترف يذهب ويضعف العصبية والبسالة، حتى إذا


(١) د. أحمد محمد صبحي: في فلسفة التاريخ ١٤٧.
(٢) المرجع السابق ١٤٧ - ١٤٨.