للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والقول الأول: باطل؛ لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر، وأمر الله بالوفاء إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم، فقال سبحانه في آية الربا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (١) سورة البقرة آية: ٢٧٨ فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا، بل مفهوم الآية - الذي اتفق العمل عليه - يوجب أنه غير منهي عنه. ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم، ولم يأمرهم برد المقبوض، وقال - صلى الله عليه وسلم ـ: «أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام (٢)» وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية، ولم يستفصل: هل عقد به في عدة أو غير عدة؟ بولي أو بغير ولي؟ بشهود أو بغير شهود؟ ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته، إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام. . كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشرة نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن، وكما أمر فيروزا الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق في الأخرى، وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارق ذوات المحارم. ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع. ولو كانت العقود عندهم كالعبادات - لا تصح إلا بشرع - لحكموا بفسادها، أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع.

فإن قيل: فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام، ثم أسلموا بعد زواله مضت ولم يؤمروا باستئنافها؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، فليس ما عقده بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع، وكلاهما عندكم سواء.

قلنا: ليس كذلك، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به التقابض، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ، بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ، لا قبل القبض ولا بعده، ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده؛ لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها، كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما، وإن كان بغير نكاح، فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه - ولن يقترن بالآخر - أقرهم الشارع على ذلك. بخلاف الأموال، فإن المقصود بعقودها هو التقابض، فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها، فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود.

فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم؛ لأنه لا يصححه إلا بتحليل.


(١) سورة البقرة الآية ٢٧٨
(٢) سنن أبو داود الفرائض (٢٩١٤)، سنن ابن ماجه الأحكام (٢٤٨٥).