للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها، فإن الفقهاء جميعهم - فيما أعلمه - يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد. ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله. فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود. لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد، فإنه آثم، وإن كان قد صادف الحق.

وأما إن قيل: لا بد من دليل شرعي يدل على حلها، سواء كان عاما أو خاصا، فعنه جوابان.

أحدهما: المنع كما تقدم.

والثاني: أن نقول: قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة، إلا ما استثناه الشارع. وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله، فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود.

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم ـ: «أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (١)» فالشرط يراد به المصدر تارة، والمفعول أخرى. وكذلك الوعد والخلف. ومنه قولهم: درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا - والله أعلم - المشروط لا نفس التكلم. ولهذا قال: «وإن كان مائة شرط (٢)» أي: وإن كان قد شرط مائة شرط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط، وإنما المراد تعديد الشرط. والدليل على ذلك قوله: «كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق (٣)» أي: كتاب الله أحق من هذا الشرط، وشرط الله أوثق منه. وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى.

وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله، فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتى يقال: كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، فيكون المعنى: من اشتراط أمرا ليس في حكم الله ولا في كتابه، بواسطة وبغير واسطة: فهو باطل؛ لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط، حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط، ولما لم يكن في كتاب الله: أن الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط - وهو ثبوت الولاء لغير المعتق - شرطا ليس في كتاب الله، فانظر إلى المشروط إن كان أصلا أو حكما. فإن كان الله قد أباحه جاز اشتراطه ووجب، وإن كان الله لم يبحه، لم يجز اشتراطه. فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته. فهذا المشروط في كتاب الله؛ لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها. فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله.

فمضمون الحديث: أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة، أو يقال: ليس في كتاب الله أي: ليس في كتاب الله نفيه، كما قال: «سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم (٤)» أي: بما تعرفون خلافه. وإلا فما لا يعرف كثير.


(١) صحيح البخاري العتق (٢٥٦٣)، صحيح مسلم العتق (١٥٠٤)، سنن أبو داود العتق (٣٩٢٩)، موطأ مالك العتق والولاء (١٥١٩).
(٢) صحيح البخاري العتق (٢٥٦٣)، صحيح مسلم العتق (١٥٠٤)، موطأ مالك العتق والولاء (١٥١٩).
(٣) صحيح البخاري العتق (٢٥٦٣)، صحيح مسلم العتق (١٥٠٤)، سنن النسائي الطلاق (٣٤٥١)، سنن ابن ماجه الأحكام (٢٥٢١).
(٤) صحيح مسلم مقدمة (٦)، مسند أحمد بن حنبل (٢/ ٣٤٩).