للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم نقول: إذا لم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة، بمعنى أنه لا يلزم بها شيء، لا إيجاب ولا تحريم. فإن هذا خلاف الكتاب والسنة، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام، فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه، وسماه {مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (١) ثم إنه أوجب به - على من عاد - الكفارة، ومن لم يعد: جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد. وكذا النذر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر فقال: «إنه لا يأتي بخير (٢)» ثم أوجب الوفاء به، إذا كان طاعة في قوله - صلى الله عليه وسلم - «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (٣)».

فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم. نعم لا يكون سببا لإباحة، كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم، ونحو ذلك، لم يستفد المنهي بفعله، لما نهي عن الاستباحة؛ لأن المنهي عنه معصية، والأصل في المعاصي أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته، والإباحة من نعمة الله ورحمته، وإن كانت قد تكون سببا لعقوبة الله، والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (٤) سورة النساء آية: ١٦٠ وإن كان قد يكون رحمة أيضا، كما جاءت شريعتنا الحنيفة.

والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص: فهو عقد حرام، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه، وكلا المقدمتين ممنوعة، كما تقدم.

وقد يجاب على هذه الحجة بطريقة ثانية، إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد الشروط التي لم يبحها - وإن كان لم يحرمها - باطلة فتقول:

قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما، وإن المقصود هو وجوب الوفاء بها. وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة، فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة، وذلك لأن قوله: «ليس في كتاب الله (٥)» إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه إنما دل كتاب الله على إباحته بعمومه، فإنه في كتاب الله؛ لأن قولنا: هذا في كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم. وعلى هذا معنى قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (٦) سورة النحل آية: ٨٩ وقوله: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (٧) سورة يونس آية: ٣٧. وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (٨) سورة الأنعام آية: ٣٨ على قول من جعل الكتاب هو القرآن. وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ: فلا يجيء ها هنا.

يدل على ذلك: أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع، صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله. وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه ولكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المسلمين، فيكون


(١) سورة المجادلة الآية ٢
(٢) صحيح مسلم النذر (١٦٣٩)، سنن النسائي الأيمان والنذور (٣٨٠١)، مسند أحمد بن حنبل (٢/ ٨٦).
(٣) صحيح البخاري الأيمان والنذور (٦٦٩٦)، سنن الترمذي النذور والأيمان (١٥٢٦)، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (٣٨٠٦)، سنن أبو داود الأيمان والنذور (٣٢٨٩)، سنن ابن ماجه الكفارات (٢١٢٦)، مسند أحمد بن حنبل (٦/ ٣٦)، موطأ مالك النذور والأيمان (١٠٣١)، سنن الدارمي النذور والأيمان (٢٣٣٨).
(٤) سورة النساء الآية ١٦٠
(٥) صحيح البخاري الصلاة (٤٥٦)، صحيح مسلم العتق (١٥٠٤)، سنن أبو داود العتق (٣٩٢٩)، موطأ مالك العتق والولاء (١٥١٩).
(٦) سورة النحل الآية ٨٩
(٧) سورة يونس الآية ٣٧
(٨) سورة الأنعام الآية ٣٨