للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في كتاب الله بهذا الاعتبار؛ لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار.

يبقى أن يقال على هذا الجواب: فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما، فشرط الولاء داخل في العموم فيقال: العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص، فإن الخاص يفسر العام. وهذا المشروط قد نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته، وقوله: «من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (١)» ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (٢) {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (٣) فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده، دون من تبناه وحرم التبني، ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعى أخاه في الدين ومولاه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة: «أنت أخونا ومولانا (٤)» وقال - صلى الله عليه وسلم ـ: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس (٥)».

فجل سبحانه الولاء نظير النسب، وبين سب الولاء في قوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (٦) سورة الأحزاب آية: ٣٧. بين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد. فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالإيلاد، فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق؛ لأنه في معناه، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره، فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره.

وإلى هذا المعنى أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «إنما الولاء لمن أعتق (٧)».

وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه: لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها؛ لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه، مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يرد إلا المعنى الأول، وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله، والتقدير: من اشترط شيئا لم يبحه الله. فيكون المشروط قد حرمه؛ لأن كتاب الله قد أباح عموما ولم يحرمه، أو من اشترط ما ينافي كتاب الله، بدليل قوله: «كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (٨)» فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلين: الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب، وانتفاء المحرم. فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة: هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا؟

أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي: فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة


(١) سنن الترمذي الوصايا (٢١٢١)، سنن ابن ماجه الوصايا (٢٧١٢)، سنن الدارمي السير (٢٥٢٩).
(٢) سورة الأحزاب الآية ٤
(٣) سورة الأحزاب الآية ٥
(٤) صحيح البخاري الصلح (٢٧٠٠).
(٥) صحيح البخاري الإيمان (٣٠)، صحيح مسلم الأيمان (١٦٦١)، سنن الترمذي البر والصلة (١٩٤٥)، سنن ابن ماجه الأدب (٣٦٩٠)، مسند أحمد بن حنبل (٥/ ١٦١).
(٦) سورة الأحزاب الآية ٣٧
(٧) صحيح البخاري البيوع (٢١٥٦)، سنن النسائي البيوع (٤٦٤٤)، مسند أحمد بن حنبل (٢/ ١٠٠).
(٨) صحيح البخاري العتق (٢٥٦٣)، صحيح مسلم العتق (١٥٠٤)، سنن النسائي الطلاق (٣٤٥١)، سنن ابن ماجه الأحكام (٢٥٢١).