للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم. وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، (الفتاوى ٣ ص ٣٣٤) فالوفاء بالشرط إذن واجب بالنقل والعقل، وبخاصة بعد أن رضيها المتعاقد مختارا، فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، ونتيجتها هي ما أوجباه على نفسيهما بالتعاقد؛ لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (١) وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (٢) فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدل على أنه سبب له. وإذا كان طيب النفس هو المبيح للصداق، فكذلك سائر التبرعات، قياسا بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن.

وكذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (٣) لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك، فإذا تراضى المتعاقدان، أو طابت نفس المتبرع بتبرع، ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك (الفتاوى ٣ ص ٣٣٦ - ٣٣٧).

ويستخلص ابن تيمية من هذه المقدمات أن الأصل في الشرط أن يكون صحيحا ويصح معه العقد، سواء كان ذلك في المعاوضات أو في التبرعات، ففي المعاوضات يجوز للبائع أن يشترط منفعة المبيع كأن يسكن الدار شهرا أو ينتفع بزراعة الأرض سنة، ويجوز للمشتري أن يشترط على البائع أن يخيط له الثوب أو يحمل المبيع إلى داره أو يحصد الزرع، ويجوز أن يشترط البائع إذا باع الرقيق أن يعتقه المشتري، ولكن لا يجوز أن يشترط البائع أن يكون الولاء له عند الإعتاق؛ لأن هذا شرط يحلل حراما. وفي التبرعات يجوز لمن أعتق عبدا أن يشترط عليه أن يخدمه طول حياته، حياة العبد أو السيد، وقد ورد أن أم سلمة أعتقت عبدها سفينة واشترطت عليه أن يخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما عاش (الفتاوى ٣ ص ٣٢٧). ويجوز للواهب أو الواقف أن يشترط لنفسه منفعة ما يهبه أو يقفه مدة معينة أو طول حياته (نظرية العقد لابن تيمية ص ١٦ - الفتاوى ٣ص ٣٨٩ - ٣٩٠) بل يصح أن تكون المنفعة التي استثناها المتبرع وأضافها لنفسه منفعة غير معلومة إذ يجوز في التبرعات من الغرر ما لا يجوز في المعاوضات كما تقدم القول. وفي هذا يقول ابن تيمية: " يجوز لكل من أخرج عينا عن ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع، أو تبرع كالوقف والعتق، أن يستثني بعض منافعها، فإن كان مما لا يصح فيه الغرر كالبيع، فلا بد أن يكون المستثنى معلوما؛ لما روي عن جابر. وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف، فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش عبده أو عاش فلان، أو يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف " (الفتاوى ٣ص ٣٤٢ - ٣٤٣).

* * *

ويبني ابن تيمية على ما تقدم أن الشرط لا يفسد إلا على سبيل الاستثناء، وفي موضعين:

(الأول) إذا كان الشرط ينافي المقصود من العقد، مثل أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه


(١) سورة النساء الآية ٢٩
(٢) سورة النساء الآية ٤
(٣) سورة النساء الآية ٢٩