للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ننتقل بعد ذلك إلى ما تتابعت فيه بعض الدول الإسلامية أو توشك أن تتابع فيه، وهو قبول تجزئه الشريعة؛ لتحكم جانبا ويحكم القانون الوضعي جانبا آخر، وهو أخطر ما وقعت فيه - أو تقع فيه - بعض البلاد الإسلامية.

أما خطورة الأمر: فلأنه يتم أو يمكن أن يتم خفية دون أن يشعر الناس فتنقض عرى الإسلام عروة عروة، والناس معتقدون أنهم بخير وأن دينهم بخير؛ لأنهم يسمعون الأذان ويؤدون الصلاة! تماما كما ينقب بيت ويسرق منه في كل ليلة شيئا، وصاحبه مطمئن نائم؛ لأن بيته لم ينقض عليه.

من هنا كان تعطيل جزء من شريعة الله، واستبدال جزء به كان هذا أخطر على المسلمين من تعطيلها كلها؛ لأن تعطيلها دفعة واحدة ينبه المسلمين للخطر فيفيق النوم الغافلون، أما تعطيلها جزءا جزءا فإن النوم والغافلين لا ينتبهون. وعرى الإسلام تنقض عروة عروة، أولها الحكم وآخرها الصلاة.

ولقد كان ذلك مسلك أعداء الإسلام دائما؛ فالتتار حين احتلوا أرض المسلمين لم يرغموهم على ترك شريعة الله كلها، وإنما عرضوا عليهم أن يأخذوا من الشريعة الإسلامية ومن شريعتهم ومن شرائع أخرى، وقدموا لهم الياسق، فطعن علماء المسلمين في ذلك، ورفضوه بالإجماع، وأفتوا بكفر من قبله أو تحاكم إليه (١).

وهو ما حدث في تركيا قبل إلغاء الخلافة الإسلامية. فقد بدأ الأمر في سنة ١٨٤٠ بإصدار قانون عقوبات مأخوذ عن القوانين الأجنبية.

وفي سنة ١٨٥٠ بإصدار قانون التجارة مأخوذ كذلك عن القوانين الأجنبية.

وفي سنة ١٨٦٠ بإنشاء المحاكم النظامية إلى جوار المحاكم الشرعية.

وأخيرا كان إلغاء الخلافة كلها في سنة ١٩٢٣م.

وهو ما حدث في مصر كذلك - على نحو ما أشرت إليه.

ولقد نبه الله سبحانه إلى هذا الخطر فقال مخاطبا نبيه ومن بعده كل ولي أمر، وكل مسلم: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (٢)


(١) ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (جـ٢ ـ ص ٦٧).
(٢) سورة المائدة الآية ٤٩