صدق لهجته فيما يكن لأمير المؤمنين من السمع والطاعة في المنشط والمكره ومن براءته مما عزاه إليه خصومه، وأذن الله بانكشاف الغمة فجاءه بعد يومين كتاب من علي بن الجهم أن أمير المؤمنين قد صح عنده براءتك مما قذفت به وكان أهل البدع قد مدوا أعناقهم فالحمد لله الذي لم يشمتهم بك.
وأقبلت الخلافة على الإمام تخطب وده وتطلب المؤانسة بقربه والتبرك بدعائه وأخذت الأيام تدبر مولية عن المعتزلة. فمرض ابن أبي دؤاد بالفالج، وجاء بعض أعيان الدولة يتقربون إلى الإمام أحمد بذكر ما نزل بابن أبي دؤاد ويومئون إلى أن كرامة الإمام على الله أوجبت ذلك القصاص فلم يلتفت إليهم الإمام أحمد وصمت ولم يرد، وظهر عليه التبرم بما قالوا. ومضت الأيام في إدبارها على المعتزلة فغضب الخليفة على ابن أبي دؤاد وقبض على أبنائه وصادر أملاكه وأمواله وجواهره، وأخذ ابن أبي دؤاد إلى بغداد بعد أن أشهد عليه ببيع ضياعه فكان يأتي إلى الإمام أحمد من يحمل إليه تلك الأنباء فيكرم نفسه أن تنزل إلى مستوى الشماتة الرخيص بل كان الخليفة نفسه يرسل إليه كأنه يستفتيه فيما يرى من مصير أموال ابن أبي دؤاود فكان يسكت ولا يجيب بشيء وهو موقف جدير أن يلقي على الناس دروسا في عظمة النفس وشدة الإقبال على جلائل الأمور والانصراف عن سفاسفها وتوافهها رحم الله الإمام أحمد لقد كان إماما في كل مكرمة.
ثم أرسل إليه الخليفة المتوكل كتابا يقول فيه: قد صح نقاء ساحتك، وقد أحببت أن آنس بقربك وأتبرك بدعائك وقد وجهت إليك بعشرة آلاف درهم معونة على سفرك وفرح آل أحمد بالعافية تقبل مع السعة والجاه، وحل بالدار نشاط وأنس، ودب فيها بعد الوحشة دبيب الحركة بمن صار يغشاها من رسل الخليفة وكبار رجال الدولة. قال ابنه صالح: لما جاء كتاب المتوكل بالمال ناداني أبي في جوف الليل فقمت إليه فإذا به يبكي فلما رآني قال: ما نمت ليلتي هذه سلمت من هؤلاء حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم.
* * *
فلما كان الصباح جاء الحسين البزاز والمشايخ فقال: يا صالح جئني بالميزان وبالدراهم ثم أخذ يزن المال ويقول: وجهوا هذا إلى أبناء المهاجرين وهذا إلى أبناء الأنصار وهذا لفلان ليفرق في ناحيته وهذا لفلان وهكذا حتى فرقها كلها فلما فرقها أحس أنه فرق معها كربته وتنفس الصعداء ونفض الكيس ثم تصدق به.
وكان لا بد لأحمد من تلبية أمر الخليفة لا خضوعا لقوة السلطان بل وفاء لحق السمع والطاعة الذي فرضه الإسلام لأولي الأمر في غير معصية، فخرج من بغداد إلى سامراء ومعه يعقوب المعروف بقوصرة وهو الرسول الذي حضر إليه من لدن الخليفة بالمال والخطاب وخرج معه بعض بنيه وكان يعقوب شديد السرور بنجاح مهمته فقد قبل أحمد بن حنبل أن يخرج معه، وكان يدرك مبلغ السرور الذي سيدخل قلب أمير المؤمنين بذلك.