نزل الإمام بسر من رأى ضيفا على أمير المؤمنين ولم يكن للخليفة من هم بعد أن عرف كل شيء عن أحمد إلا أن يرضيه، وأن لا يحمله علي شيء يكرهه. عرف الخليفة أن أحمد لا يقبل ماله فلم يكن له بد من النزول على رغبته واحترام إرادته ولكن لا بد من أن يصله في قرابته فليكن المال لأهله وبنيه دون أن يعلم وتسلم صالح ابنه بأمر الخليفة عشرة آلاف على الفور مكان التي فرقها أبوه ببغداد على أبناء المهاجرين والأنصار وسواهم.
وعرف رجال القصر لهفة الخليفة وشدة إقباله على أحمد وإكباره له فأقبلوا عليه بمثل ما أقبل سيدهم كل يخطب وده ويبتغي إليه المنزلة ويحاول أن يسره بما يستطيع. أمر الخليفة أن تفرش الدار التي هيئت له بالفرش الوثيرة وأن ترتب له ومن معه من بنيه مائدة شهية واسعة وأمر أن يقطع له ملابس فاخرة: طيلسان وقلنسوة وشارات رسمية من السواد الذي اختارته الدولة العباسية شعارا لها.
ويحضر يحيى بن خالد فيقول: إن الخليفة أمرني أن أصير لك مرتبة في أعلى ويصير ولده المعتز في حجرك تؤدبه بما شئت من أدب القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء يحيى في اليوم التالي يدعوه أن يركب إلى دار المعتز ويقول في لهجة مهذبة: تركب يا أبا عبد الله فيقول الإمام أحمد: ذاك إليكم وكان يوما مشهودا في القصر ألبسوه هناك الطيلسان وما أمر له به الخليفة من ألوان الثياب والشارات ويقول بعض الخدم: إن الخليفة كان مع أمه مستترين خلف ستار من ستور القصر يرقب في خفاء ما يكون من أحمد، فلما رآه يدخل أخذته خفة وغشيته هزة من الفرح ولمع السرور في عينيه وقال. يا أمه قد أنارت الدار بدخول أحمد.
يقول ابنه صالح: لما عاد أبي من القصر إلى الدار التي أعدت له نزع عنه الثياب التي أنعم بها عليه. وجعل يبكي ويقول: سلمت من هؤلاء منذ ستين سنة حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، ما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام فكيف بالخليفة الذي يجب نصحه من وقت أن تقع عيني عليه إلى أن أخرج من عنده؟ ! ثم التفت إلى الملابس وقال لابنه: وجه بهذه الثياب إلى بغداد لتباع وحذار أن يشتري أحد منكم شيئا منها. أما الفرش الوثيرة الطرية فقد نحى نفسه عنها، وألقى بنفسه على مضرية خشنة له، ونظر إلى حجرة في جانب الدار فأمر أن يحول إلى ركن منها وأن لا يسرج فيها سراج قط، وأما المائدة فقد عافها فلم يدخل بطنه شيء منها وكانت شهية حافلة.
وأخيرا بلغ الضجر بالإمام أحمد كل مبلغ وبرم بكل شيء وزهد في كل شيء ولم يعد أبغض إليه من أن يلقى رجال الخليفة حتى كان يدعهم مع بنيه في الدهليز، ويقبل على صلاته ما شاء الله، وكان المرض ينزل به فيراه عافية سابغة لما فيه من عافية احتجابه عنهم. اشتكت عينه مرة فلما برئت ضاق ببرئها وقال لولده صالح: ألا تعجب كانت عيني تشتكي فتمكث حينا حتى تبرأ ثم هي في هذه المرة تبرأ في سرعة. والله لقد تمنيت الموت في الأمر الذي كان أيام المعتصم وإني لأتمنى الموت في هذا، إن هذا فتنة الدنيا وكان ذاك فتنة الدين نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.