للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فكل أولئك حين يصدرون عن وحي بيئاتهم يكون شعرهم مرآة تعكس للأجيال صور تلك البيئات وآثارها في عقولهم وتفكيرهم وتصويرهم وتعبيرهم.

فما هي البيئات التي أثرت في حسان وهل صدقت شاعريته ووفت لتلك البيئات؟

لقد عاش حسان في جاهليته وإسلامه بين يثرب والشام.

أما يثرب فتكتنفها الجبال، وتحيط بها لابتان من الحجارة السوداء قال في إحداها حسان:

ترى اللابة السوداء يحمر لونها ... ويغبر منها كل ربع وفدفد

وحولها كثرة من بساتين النخيل والأعناب والفاكهة وكانت سوقا للتجارات الواردة من اليمن والهند والشام، وقد أمدت هذه التجارات أهل يثرب بشيء من الثراء، ولم تنم الحروب الناشبة بين الأوس والخزرج في الجاهلية فكانت الأيام بينهما متصلة الحلقات ومن أيامهم يوم بعاث ويوم سميحة ويوم الدرك ويوم الربيع ويوم البقيع، وقد ورد بعض هذه الأيام في شعر حسان، وكان نصيبه من تلك المعارك نصيب الشاعر المترجم تلك هي بيئته الطبيعية والاجتماعية الأولى.

وكانت الشام البيئة الثانية لحسان حيث كان ينزح إلى جوار الغساسنة العام بعد العام فيمدحهم ويقيم بينهم شهورا ويعود بصلاتهم وعطاياهم. وبلاد الشام غنية منذ بعيد بالزراعة والفاكهة والتجارة وعاش ملوكها بين البذخ والنعيم. وتمتع معهم بذلك البذخ الكثير من شعراء العرب ومنهم حسان، وقد شهد حسان في الشام جمال الطبيعة في رياضها وجداولها المنسابة كما شهد مجالس اللهو والغناء، ورأى آثار الحضارتين الرومانية واليونانية اللتين امتدتا إلى الشام أثرا للاتصال والجوار، ولهذه البيئة الثانية أثرها فيه. فلما أسلم حسان شغله الدين الجديد، ورأى في القرآن وما فيه زادا لشاعريته، وكان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدور فيه من مسائل الدين والعلم والاقتصاد والسياسة والحرب بيئة ثقافية جديدة لشاعرية حسان، وقد عاش مع الأحداث الدينية والسياسية والاجتماعية التي كانت في حياة الرسول وبعده، وشهد الغزوات، وعاصر المعارك الدائرة بين المسلمين والفرس والروم كما عاصر الخلافات التي كانت بين المسلمين واليهود والتي كانت في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والأنصار، وعاصر الفتنة الكبرى التي راح ضحيتها عثمان وما كان وراءها من معارك في البصرة وصفين.

وقد تفاعلت كل هذه المؤثرات مع مشاعر حسان فأرسل شعره يصور تلك الأحداث بل حمل العبء الأكبر في تصوير الدعوة منذ أسلمه الرسول صلى الله عليه وسلم زعامة الدفاع عنه وعن دعوة الإسلام، فنهض حسان بذلك العبء وروح القدس يؤيده.

ونضيف إلى تلك المؤثرات مؤثرا جديدا كان له أثره الكبير فيه، وهو أن بيت حسان كان بيت الشعر