وتحدد القوانين تحديدا ذاتيا. وتصدرها استنادا إلى سلطتها الوضعية المطلقة. وبذلك فإن السبب في احترام هذه القوانين وقوتها عندهم هو أنها صادرة عن الدولة. فعلتها شكلها فقط ولا بحث وراء ذلك في العدالة إلا إذا لم يوجد قانون. ولذلك فإن اعتبارات السلطة والتحكم قوية جدا في تلك النظم. ولكنها تترك للإنسان مجالا خاصا في شئونه الخاصة الداخلية على وجه مطلق. وبذلك فهي تترك للأفراد مجال حرياتهم الخاصة والشخصية والفردية - في حدود القانون - وتقيد مساهمتهم في الحياة العامة بشكل يكاد يجعل هذه المساهمة لاغية ولا قيمة لها.
وأما في مجال الحقوق العامة فهذه النظم العصرية شديدة الوطأة على الفرد بسبب أنها تجعل الدولة وحدها هي المحتكرة الأولى للسلطة. ففي الحقوق الدستورية: لا يملك الفرد في النظم العصرية أن يباشر شيئا بصفة الفردية الخاصة. بل كل حقوقه معلقة ومنوطة ومقيدة بأن يمارسها بصفته عضوا في هيئة من الهيئات ولا يتأتى له الاستقلال بكيانه في شيء. ففي استعماله لحقه في الانتخاب يدلي بصوته - أيا كان قيمته - كعضو في الهيئة العامة للناخبين. ويتكون القرار النهائي الصادر بإنجاح الفائز من مجموع الأصوات التي أبديت في الانتخاب. وكذا في المشروعات والقرارات التي يقرها البرلمان أو نحوه من مجالس السلطة التشريعية المكونة من نواب منتخبين عن الشعب، فإنها كلها تصدر بقرار من الأغلبية، وكذا قرارات المجالس، كمجلس الوزراء فما دون، واللجان داخل مجلس الشعب أو خارجه وفي أنواع الإدارات المركزية والمحلية والمتفرعة. . كل ذلك يكون بالأغلبية ولا يملك فرد بصفته الخاصة شيئا.
وهذا التصوير البراق يخفي حقيقة مؤلمة: هي أن هذه الأشكال كلها تنطوي على التحكم والاستبداد. . فإن الانتخابات التي تدور بين حزبين فأكثر إنما تدور على أساس برنامج يضعه كل حزب. وهذا البرنامج يضعه واحد هو رئيس الحزب، أو - بالكثير - بمشاركة القلة من أصحاب القوى والنفوذ في الحزب. وتأتي المجالس الشعبية - التي تحوز السلطة التشريعية - لتنفذ هذا البرنامج؛ لأنها نجحت على أساسه. . وينظر إلى المعارض داخل الحزب نظرة خاصة قد تطيح به. . وهذا هو الحال في المجالس بأنواعها، وفي مجالس الإدارات العامة كمجالس المؤسسات العامة، ومجالس الإدارات الخاصة، وتسير الحياة سيرا احتكاريا في ثوب خادع من حرير الحرية الناعمة حتى أصبحت الوسائل القابضة من أهم مظاهر الحياة الحديثة وأصبح التحكم والاحتكار في الحياة العامة والخاصة من أعقد العيوب التي تعاني منها الحياة العصرية. وأصبح الكيان الحقيقي للفرد هو لا شيء. . وصفر بلا رقم صحيح أو كسر. .